يا ظالم ….!!” / د. محمد شواقفة

“يا ظالم ….!!”

كان والدي حفظه الله و اطال بعمره من الطف الكائنات الذين تعاملت معهم و لا زلت اراه بنفس الالق رغم تغير الاحوال …. و اذكر عندما كنت صغيرا و من ضمن ذاكرتي المهشمة بعض الشئ …كيف كان دائما يقرعنا و يؤنبنا كلما كنا طرفا في خلاف او مشكلة …. و صدقا …كان الناس دائما يمدحونني لانني ابن ابي و يذكرون اخلاقه الرفيعة و ادبه الجم …. لم يذكر احدا ان طباعي لا تشبه طباعه و بان ادبي لا يرقى لادبه …. و لكن لم يعرفوا ايضا انه رغم لطفه و اخلاقه العالية مع الناس و الغرباء فقد كان ديكتاتورا ناعما و لكنه عنيد لدرجة الكمال …. لم يكن يرضى ان اكون مشاكسا او ان يكون لي نصيب من الزعرنة الحميدة التي تربى و ترعرع عليها اقراني من ابناء القرية …. لذلك كبرت شابا ينوء كاهله بحسن سيرة ابيه و يحاول جاهدا ان يحافظ على الصورة البهية دائما و ابدا …. و كان اسوأ خيار بالنسبة لي ان انقل اليه اي شكوى او ان يصل لمسامعه انني كنت طرفا في اي نزاع بغض النظر ظالما او مظلوما و الاخيرة هي الحال في اغلب الاحيان …. كنت فوق غبني و خوفي و شعوري بعدم الامان …. اخفي كل تلك التفاصيل الصغيرة التي لو رشحت و وصلت لعلم والدي لكانت عقوبتي مضاعفة …. لذلك اخترت ان اصمت ؟!!
كان هناك في طريقي الى المدرسة التي كنت احث الخطا اليها راجلا لمسافة تزيد عن الكيلومتر و نصف يوميا ذهابا و ايابا …. و دونما اعتبار للاحوال الجوية …. تحت الشمس و تحت المطر …. بيت احاول دائما تجنبه لسببين …. اولهما وجود كلب مخيف لديهم …. و ثانيهما فقد كان لديهم ابن ” شراني ” … يعترض كل من يسلك ذلك الطريق في حالة بدائية من فرض السطوة و الاتاوة …لم اكن حالة استثنائية فكل اقراني مثلي و لربما بعضهم طريقه اطول او اقصر و لكن وجود هذا البيت في طريقي حتما يجعلني مختلفا بعض الشئ …. كان هذا الولد يكبرني بصفين فعلا رغم ضخامة جثته فقد كان يبدو اكبر من عمره. و كان الكلب بشعا مقرفا و الاهم انه كان مخيفا . كانت المسافة تزيد علي في اغلب الاحوال لانني كنت اذهب بطريق التفافي او اضطر للذهاب باكرا او احيانا متأخرا كي اتجنب مضايقاته …. و كنت اذهب للبيت في طريق العودة راكضا في اغلب الاحيان …. لكي اتجنب ان التقيه في الطريق …. فقد كان طالبا في نفس المدرسة …!!! …. لم يكن الامر صعبا و معقدا في اغلب الاحيان …. لكن وجود الكلب القبيح و الذي كان ينبه ذلك الشرير بان هناك عابرو سبيل كان يجعل امر الهروب او التجاوز اكثر دراماتيكية ….
في بداية احد السنوات …. دخلت الصف مع زملائي مع تغيير طفيف في تركيبة الصف …حيث لم يفلح البعض في الانتقال للصف الجديد و كان هناك مجموعة صغيرة اضيفت لصفنا من الصف الاكبر منا عمرا و حجما ….. و يا للهول …!!! كان يجلس في آخر الصف …هو ذاته بشحمه و لحمه و عيونه التي كنت ارى فيها بريقا من الشر و العدوانية …. بات غريمي و مرعبي في الطريق زميلي في الصف …!!!….حاولت ان لا تظهر مخاوفي على ملامحي و لكن ليس صعبا اكتشاف شعور الفراشة علقت في شبكة العنكبوت …. كان الصف واسعا و كبيرا … لكنني كنت اشعر به يجلس بجانبي و اسمع همسات التهديد و الوعيد في اذني …..
اقترب مني ذات يوم …. و كنت فعلا صغيرا بالحجم و رقيقا ناعما ….ليس في من مقومات اولاد القرية سوى لهجتي و لساني …. نظر الي نظرة لا استطيع تصنيفها سوى انني تقريبا توصلت لحالة الاغماء …. فقد تسارعت دقات قلبي و كان العرق يرشح من كل مسامات جلدي ….. و قال لي باللهجة الآمرة : أعطيني مصروفك !!!…. في لحظات من السكون الذي خيم على اجواء الصف و عيون الاولاد التي تترقب اهانتي و استسلامي …. خرجت زفرة من انفاسي المتقطعة و التي بدت لوهلة انها : لا !!!! . التفت الي و بلهجة اكثر حدة : أعطني مصروفك و إلا !!!! …. مددت يدي في جيبي اتلمس بعض الدريهمات و لكنني و بدون مقدمات …. شعرت انني لا بد ان اقف لاجل ذاتي و لو للحظة ….. ضممت يدي و بداخلها النقود و وجهت لكمة لم اعرف مدى تأثيرها الا و انا ارى الدم يتطاير من فتحات انفه الضخم ….. و بلحظات كانت المدرسة بل القرية جميعها تتحدث عن ظهور البلطجي الصغير ابن الاستاذ المحترم ….. من يومها لم يعد ذلك الشرير يعترض اي احد و تلاشى و اظنه اصبح شيئا مهما فيما بعد في بلدة مجاورة ….
حاولت جهدي ان اشرح لزملائي و من حولي انني لست خليفة الشرير و كانت مشكلتي مرة اخرى مع ابي …. الذي جن جنونه عندما وصلته الاخبار بان ضربتي اليتيمة المفاجئة بانها كانت نزالا حامي الوطيس و سالت فيه الدماء ….
تعلمت اشياء كثيرة …. ان الصمت عن الظلم مثلبة تساوي الظلم نفسه ….. و لتكن هناك مخاطر قد تعترضك في طريقك و لكنها قد تكون الغشاوة التي تفتح الطريق….. حاول تجاوزها و لا تدع مخاوفك تسيطر عليك ….
اتمنى من الحكومات ان لا تكون ثقتها الزائدة باننا سنعطيهم مصروف جيبنا اذلاء صاغرين ….و ان القبضة بدأت تشتد في جيوبنا الخالية ….. و لكن كل ما أخشاه ان لا تكون الضربة كافية…..لانني اجزم انكم و الله اعلم ليس عندكم دم !!!!

“دبوس عالظلم ”
طبعا الخاطرة رمزية و لا تمت للواقع بصلة …. صراحة الشرير نفسه صديق عندي و أعرفه و يعرفني

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى