وطن ليس للبيع أوالمبادلة

وطن ليس للبيع أوالمبادلة
د. هاشم غرايبه

في الثمانينيات كان ذلك معتادا، فقد كان الطالب الجامعي (ف.) الذي يدرس في بولندا قلقا من اقتراب موعد بدء العام الدراسي الجديد فيما جواز سفره محتجز لدى المخابرات، وكلما راجعهم طلبوا منه معلومات حتى يفرجوا عن جوازه، وكان قد أجابهم عن كل ما سألوه لكن معلومة واحدة لم تقنعهم وهي: أن الذي ارسله الى بولندا هو أبوه، ولم يكونوا يصدقون ذلك فأبوه كان مسجلا في سجلاتهم أنه بعثي، وفعلا لم يكن الإبن يعرف ذلك، ولا يعرف حتى الفارق بين البعثي والشيوعي، ولما عرف أبوه سبب استمرار مراجعته بدون جدوى قال له أن واسطة قبولك كان د. يعقوب زيادين فقل لهم ذلك وريّحنا، وطار صاحبنا بهذه المعلومة فرحا وقال للمحقق إن الذي أرسلني هو زياد يعقوبين، دهش المحقق وقال: أعد ما قلت، فأعاد الطالب الاسم مخطوءا مرة أخرى، وعندها ابتسم المحقق قائلا: خذ جواز سفرك، فلو كنت شيوعيا لما أخطأت في اسمه .
الى ما قبل عام 1989 حينما أجبرت هبة نيسان الدولة الأردنية على التنفيس قليلا عن الحريات، المكبوتة منذ عام 1957، والذي شهد آخر حكومة برلمانية، كانت الحرب شعواء على الحزبية، ولمّا كانت أمريكا أعلنت الحرب على الشيوعية فيما عرف بالفترة المكارثية، انصاعت الأنظمة العربية لإملاءاتها، النظام الأردني كونه الأكثر تبعية، أصدر قانون مكافحة الشيوعية الذي يعاقب بالسجن خمسة عشر عاما لكل من يتعاطف مع الفكر الشيوعي (بالمناسبة فهذه تماثل عقوبة القتل العمد في الأردن!!)، وكان هنالك ختم على جواز السفر الذي يعطى للأردني مدون فيه: صالح للسفرالى كافة الأقطار ما عدا دول الإتحاد السوفياتي الخمسة عشر!!.
كانت هذه مشكلة وطنية بامتياز، فلم يكن التعليم الجامعي متاحا إلا في جامعات الإتحاد السوفياتي، والتي فتحت مجانا لأبناء الفقراء، بالإضافة لجامعات عربية مثل مصر والعراق وسوريا، ولولا ذلك لظل أبناء الطبقة الفقيرة يعملون في مهن آبائهم، ولظلت مهن الطب والهندسة والمحاماة مقتصرة على أبناء الطبقة المترفة وأعمدة النظام الذين لا يُدرّسون أباءهم إلا في جامعات الدول الغربية المكلفة، وأما الجامعة الوطنية الوحيدة في تلك الأيام (الجامعة الأردنية) فقد كان القبول فيها (وما زال) في معظمه مكرمات يتفضل بها النظام على الموالين والمؤلفة قلوبهم.
لقد عاش الطلبة سني دراستهم في تلك الأقطارتحت رعب أن لايسمح لهم بالعودة الى مكان دراستهم، حيث تحتجز جوازات سفرهم لدى عودتهم كل عطلة صيفية ويطلب منهم مراجعة المخابرات، التي لا تعيده إلا بعد التأكد من أنهم غير حزبيين، ومراجعات مذلة لابتزازهم بالحصول على معلومات، والوشاية بزملائهم.
وعاش أهلهم أيضا مرارة التحقيق والاعتقال بالتهمة المرعبة: الحزبية!!، فكان الكابوس الدائم في حياة الأطفال هو دخول ( زوار منتصف الليل) الذين يداهمون المنزل، فيبعثرون الأثاث ويقلبون كل شيء بحثا عن منشورات أو كتب سياسية، وإن وجدوا، شحطوا الأب وسط صراخ الأولاد وعويل الأم.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتغير تصنيف العدو لدى أمريكا من الشيوعية الى الأصولية الإسلامية، أنعكس هذا التعديل علينا في الأردن بإلغاء قانون مكافحة الشيوعية واستبدل به قانون مكافحة الإرهاب، بل وتم الاعتراف بالحزب الشيوعي، ولم يعد الانتساب له أو لأي حزب آخر جريمة، شريطة أن لا يدعو لإقامة دولة الإسلام.
الآن تستخف الدولة بعقول الشعب فتقول أنها تسعى للتنمية السياسية، وتضع قوانين لتشجيع الأحزاب، لكنها فعليا لا تريد سوى حزب واحد موالي، شبيه بالصورة القميئة للحزب الحاكم في أنظمة الحكم العربية التي عفا عليها الزمن..أي اجترار تجربة مهترئة.
وبعد، هل يصدق أحد ادعاء الدولة بأنها تريد حكومة برلمانية!؟.
وهل هنالك غير قانون الصوت الواحد مسؤول عن انتاج مجالس نيابية منزوعة الدسم، وبلا طعم ولا لون ولا رائحة، بل مجالس وجهاء وشيوخ قبائل؟؟.
من زرع حصد من جنس زرعه، فمن زرع الخوف وصادر الحريات لا يجني إلا مهزوما، ومن زرع التهتيف والتصفيق لا يجني جيلا مبدعا خلاقا.
وبعد فلا تسألوا لماذا ننقب عن رئيس حكومة قادر على انقاذ الأردن مما آل إليه فلا نجد، ونتعب في البحث عن وزراء أكفاء فلا نلقى أحدا بالقدر المطلوب، لكن اسألوا ما الذي أوصلنا الى ذلك !!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى