هل كان وهمًا؟
#سناء_جبر
نسير بهذه الحياة متعثرين على سلم متهالك الدرجات، نخطو بتؤدة أو تردد أو استعجال، لا يهم فالنتيجة قد لا تكون مضمونة في أي حال، قد نتانى ونتعثى ، وقد نستعجل فنلتحق بالركب لاهثين، وقد نتردد فنبقى في أمكنتنا نراوح حول ذواتنا وقد نتقدم متسلقين على كتفٍ أخرى سقطت فركبنا موجها ونظن انفسنا نجحننا بذكائنا متناسين أنها الصدفة التي تصيب مرة وتخطئ مرات فنتعثر بخيبات وسقطات تُعيدنا إلى الصفر أو ما بعده بدرجات. نقطع جزءًا من شوط الحياةِ نراقب عن كثب ما يدور حولنا، ومعنا وفينا وبأيدينا نفعل ولا نعي، وبألسنتنا نتحدث ونخطئ ولا ننتبه، ويهمنا غير المهم. أما المهم والمصيري فلا نعيره انتباها ولا نكترث به، وتتكالب علينا للهموم من حيث نعرف ولا نعرف، نغتاظ ونغتمّ، فإما أن يصيبنا اليأس بحباله ويقيدنا فلا نبرح، وإما أن نصرخ بوجه الخيبة والدنيا ألا تفرحي فأنا إعصار هائج لا يعرف الهدوء له طريقًا… وبين الحالين تلكما أحوال وعبرات وشهقات وآهات تلوح هنا وهناك، لا يدري بها إلا الله وحده، ألمّ بها القهر وقلة الحيلة وانعدام الأمن حتى انطفأت منها العيون واسودّت الدنيا أمام عيونها فغاب الأمل وانكسرت الأرواح وذبلت ، وكيف ستكون هناك حياة بلا أمل؟ عبث وسراب.
لست أدري… أهذا الذي أكتبه حقيقة واقعية أم خرافة وهلوسة أم هذيان ما له من جذور، أم فلسفة مدججة بالتنظير اللامنطقي الانهزامي بطرحٍ فوقي أتلوه من علٍ وكأنني لست واحدًا منكم، وما علي إلا المشاهدة والتسجيل. لا أخفيكم، هي تساؤلات تثير في النفس قلقًا وريبة وضعفًا في أحايين كثيرة، تنعكس على نفسيتي وصحتي سلبًا، حتى أشعر أنني أدخل في دائرة من الاكتئاب يصعب علي الخروج منها، فماذا يحدث لو دخلتم بها معي؟ هراء وخزعبلات لا تجني منها إلا الصداع والتيه زيادة على ما كان أصلًا.
منذ ما يزيد عن عشرة أشهر، ونحن نعيش القهر بعينه وأهلنا في غزة يقتلون ويبادون بمجازر وحشية أتعجب من قدرتهم على العيش أكثر، وهم يفقدون أحباءهم واحدًا تلو آخر، أشلاء محروقة وعائلات كاملة مُحيت من السجل المدني وأهلًا ظلوا تحت الردم أشهرًا فتسلمتهم هياكل عظمية أو ما تبقى منها أو ما زالت هناك لا تستطيع إلا إكمال طريقك وإلا فالدور حان، يقنصون الأطفال والنساء والشيوخ والأجنة أخرجه الأطباء من بطون أمهاتهم الشهيدات ، هذا الشعب أمده الله بقدرة عجيبة كل العجب على الصبر والرضا، ابتلاهم واختبرهم بإيمانهم فنجحوا وفشلنا فشلًا ذريعًا، تلك المشاهد لا نستطيع إتمام رؤيتها عن بعد، فكيف لهم أن يعيشوها كل لحظة وهم الصابرون الراضون ونجن المتخاذلون المتقاعسون، يا الله كم هو خوفي عظيم إذ سيسألنا الله عنهم، ماذا فعلنا؟ التزمنا الصمت ودفنّا رؤوسنا في الرمال كالنعام، صحيح أننا في البداية تظاهرنا وأرسلنا مساعدات جوية قتلت الطرود الكثيرين منهم غرقًا وهو يلاحفون صندوقًا من المعونة هنا أو هناك إذ وقع في البحر. لكننا في النهاية اكتفينا بشجب او استنكار أو مقاطعة حيية للدول الداعمة للاحتلال، أصابنا الملل ونحن نعد ذلك قدرا يدبرون أنفسهم معه ، وغضضنا الطرف عما يحدث. الله أكبر! يا لَهول المصير! شقينا بعدهم وذللنا وهم سيلقون الله بقلوب مؤمنة راضية ووجوه مستبشرة.
أن تشعر بنفسك مكتوف الأيدي، لا حيلة لك ولا قدرة على مشاركتهم أو جفع الضر عنهم أو حتى تقديم مساعدة ولو بسيطة لهم، فهو أمر باعث على المقت، والشعور بالهزيمة مرات مضاعفة، أن تحزن لأمر دنيوي تافه وبالمقابل تتذكرهم يجمعون اشلاء أحبتهم في كيس ، أو ذاك الطفل يبحث والده عن رأسه: ما شفت راس هون والا هون؟ عذاب فوق العذاب.
هل كان وهمًا؟ كذبة اختلقناها وصدقناها وعشناها، عندما اعتقدنا أنفسنا قد ملكنا أسباب المعرفة والخبرة والقيادة، ونسينا أو تناسينا أن الكرامة والعزة والوطنية أهم بكثير في سلم الإنجاز، وإن كان فكلاهما معًا صنوان لا يتعارضان بل ينسجمان ويتعاضدان.
لست واهمة قط، لكن كل ما في الأمر أنني بتُّ توليفة من متناقضات تشكلت بها روحي، فمن جهة أومن تمامًا أن الغلبة للحق، وأن تكون مع الله يكن معك، وما خاب من وضع الله نصب عينيه، هي ثوابت لا تهتز، وراسخة رسوخ الأطواد، لكن حكمة الله هي الدرس العظيم الذي يربّينا يوما إثر يوم، فأن ترى الأقزام تتعاظم، والجهلة تتعالى، والمنافقين يتسيدون المواقف، والكذابين يصلون وأنت مكانك. إنها لعمري العظمة في الدرس الإلهي أن الله يمهل ولا يهمل وهو يمكنهم حتى يحين وقتهم فما عليك إلا الصبر والثبات كما لو كنت قابضًا على جمرٍ من نارٍ. وكذلك غزة، فالاحتلال يتضاعف وينكل وليس ذلك إلا إيذانًا بزوالهم القريب فوعد الله آتٍ، ولن يخيب الله رجاء مضطر دعاه بيقين. صحيح أن الأجساد تموت لكن الفكرة باقية، وتراب غزة وفلسطين ارتوى من دماء شهدائها الذين بذلوا أرواحهم فداءً لها ، فستزهر أجيالًا جديدة تفيض بحب الوطن وتدافع من جديد وتثبت للاحتلال أنَّهم طارئون لا مكان لهم ولا بقاء.