#نور_على_نور

#نور_على_نور

د. #هاشم_غرايبه

في إحدى المدائح النبوية، صدمني قول المنشد: “وكان جبريل له من أخلص الخدم”، إذ أن وصف جبريل عليه السلام بهذه الصفة لا يصح، بل لم يرد في الكتاب والسنة إلا أنه كان رسولا ومعلما لرسول الله صلى الله عليهما وسلم: “عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى” [النجم:5].
من جانب آخر، نسمع كثيرا من الأقوال، سواء أحاديث بعض المشايخ، تتغنى بجمال خلقة النبي، ويسرفون في أوصاف جمال العيون وحمرة الخد، مما لا يقال إلا في أوصاف النساء، أو استعمال عبارات الغزل في أناشيد دينية مستعارة من شعراء التغزل والتشبيب، مثل طلب الوصال والشكوى من الهجران وصدود الحبيب، وما الى ذلك من العبارات التي لا تليق بمقام صاحب الرسالة والنبوة.
كما أن هنالك الكثير من الخلط يقع به بعض المؤمنين، فلا يفرقون بين محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتبجيله والتي هي سمة إيمانية، وبين تأليهه أو حتى تنزيهه عن خضوعه لسنن الله في البشر، وإنزاله منزلة وسيطة بين الملائكية والبشرية، والتي هي سمة شركية.
صحيح أن من اصطفاه الله من بين البشر بالنبوة، يكون بأرقى المواصفات، ويمنحه الله قدرات أعلى، لكي يتحمل المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقه، كما أنه يؤدبه لكي يكون قدوة ومثلا أعلى لمن يتبعه، لكنه يبقى أولا وأخيرا بشرا تجري عليه كل سنن البشر.
وهكذا أراد الله أن تكون طبيعة الأنبياء من بين البشر، لكي يقتدي بهم المؤمنون ويتبعوا خطاهم، ولا يحتجوا بأنه ليس بإمكانهم الاقتداء بهم كونهم من طينة غير طينة البشر، ومنزهون عن ما يعتور البشر من مناقص.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته أن تتبع خطى أهل الكتاب في تأليههم لأنبيائهم، لذلك أوصاهم: “لا تطرُوني كما أطرتِ النصارَى ابنَ مريمَ إنما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ اللهِ ورسولُه” [حديث صحيح].
كما نهى عن الاستغاثة به، فقد كان منافق في المدينة يؤذي المسلمين، فقال أبو بكر: قوموا نستغيث برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال صلى الله عليه وسلم: ” إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله عز وجل”.
إنما يجوز مدح النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يكن فيه غلو ولا إطراء ولا استغاثة به، إذ قد مدحه حسان وكعب وغيرهما من الصحابة وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وأما الغلو والاستغاثة فهما محرمان، لما في الحديث: “إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو”.
إذاً ما هو الحد الفاصل بين الغلو المؤدي الى الشرك، والمحبة الخالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي هي سمة دالة على عمق الإيمان؟.
لا يعلم النوايا غير الله تعالى، فالله من وراء القصد، لذلك لا يمكن التحقق من حسن النية إلا من انكشاف الغرض من الفعل.
من التدقيق، نجد أن فئتين لجأتا الى تلك المغالاة، ولغايتين مختلفتين.
الفئة الأولى هم بعض من الذين دخلوا الإسلام من أهل الكتاب تقية، وقلوبهم لم تؤمن، وأرادوا أن يضاهئوا السابقين، فجاءا بالإسرائيليات ومنها تنزيه الأنبياء عن طباع البشر في حياتهم اليومية، وذلك لتسويغ فكرة انتساب الأنبياء الى الله وليس الى البشر “وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ” [يوسف:106].
الفئة الثانية: هم المتشددون الذين لا يرون في بعض الأحكام الشرعية الواردة بنصوص قرآنية صريحة توافقا مع ميولهم المتطرفة، فيريدونها أكثر قسوة وصرامة، فيرغبون بجعل أحكام السنة تشريعات موازية وبديلة لأحكام القرآن وليست فرعا منها، لأنهم ليس بمقدورهم تغيير النصوص القرآنية، إنما من الممكن وضع أحاديث بما يوافق هواهم ونسبتها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك جاءوا بفكرة النسخ لاستبدال حكم السنة بحكم الكتاب.
لكن ما ينقض ادعاءهم أنه لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر موضوع النسخ مطلقاً، أو أمر يوما باستبدال آية بآية أخرى، أو بإبقائها تتلى ولكن لا يُعمل بها.
البداء سمة بشرية، وهو أن يستدرك المرء أمراً أمر به، ثم بدا له أنه غير مناسب فيبدله، فلا يجوز أن ننسب ذلك لله العليم الخبير.
فإن كان لم يرد قرآن بإلغاء قرآن، فالأولى أن لا يرد حديث بإلغاء قرآن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى