نور على نور

نور على نور
د. هاشم غرايبه

كان رجل من أهل الشام يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فافتقده عمر زمنا فسأل عنه فقالوا: إنه يتابع في الشراب، فكتب إليه: من عمر بن الخطاب إلى فلان ابن فلان، سلام عليك، أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير.
ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه، وأن يتوب الله عليه.
فلما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرؤه ويردده، ويقول: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي .
ولما علم عمر بتوبته قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زل زلة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه .
تتموضع النفس البشرية دائما في مكان ما بين الإستقامة والإنحراف، وهدفت التشريعات الإلهية دوما الى الدفع الدائم باتجاه الإستقامة، والتي هي قيمة مطلقة من الصعب أن يحوزها غير الأنبياء.
ورغم أن الفطرة البشرية لا تتقبل الإنحراف، بدليل أن الإنسان تضيق نفسه بما يرتكبه من الشرور، وتنشرح عندما يفعل الخير، إلا أن المصالح والأطماع والشهوات لها قوة جاذبة أقوى، لذلك فالدين لا يمكن إقامته في المجتمع بمجرد القناعات الفردية، والوقوف عند الوعظ والإرشاد فقط، من غير سلطة حاكمة تقيم الدين وتطبق تشريعاته.
من هنا نجد أن أخطر المقولات كانت القول بأن الدين لله والوطن للجميع، بل الأمر كله لله، والدين ما أنزله الله للناس ليكون مجرد معتقد فلسفي وطقوس عبادة، بل تشريعات ضابطة لحياة الناس وعلاقاتهم.
لذا فان أكثر ما أفسد المجتمعات الدعوة لفصل الدين عن السياسة أي عن حياة الناس، وترك أمورهم مرتهنة بيد من أسرتهم شهوة الحكم والمال.
وهنا ندخل في معادلة هامة، وهي: هل يمكن إدارة شؤون الناس، وتأمين متطلبات العيش الكريم لهم، اعتمادا على حفظ النصوص التشريعية والإلمام الفقهي الواسع فقط، أم أن إدارة هذه الشؤون الحياتية يلزمها ملكات وقدرات أخرى تمكن صاحب السلطة من التصرف الحكيم الذي يحقق الغرض ولا يفرط في الثوابت المرجعية؟
لقد رأينا الدولة الإسلامية الوليدة كيف نهضت بسرعة قياسية، وتمكنت من قيادة العالم خلال ثلاثين عاما، فعندما تسلم أبو بكر إدارتها من بعد القائد المعلم القدوة صلى الله عليه وسلم، كان كثيرون يتخوفون من رقة أبي بكر وطيبته، ويخشون انفلات الأمور، لكن موقفه الصلب في حروب الردة فاجأهم، وعندها عرفوا أن الإدارة الناجحة هي التي تقدر موقف الشدة من موقف اللين.
تصرف عمر بن الخطاب الآنف الذكر، يدل على أن السياسة فن وموهبة وقدرات، هي منفصلة عن العلم والفقه، قد يجتمعان معا أو يفترقان.
لم يبادر الى معاقبة شارب الخمر، ولم يخش كلام المتشددين المتعطشين الى إيقاع العقوبات، لأنه يعلم الحكمة من إقامة الحدود، وهي تقويم الإعوجاج وليس العقاب، ولا شك أنه حريص على الدين وإقامة الشرع، لكنه مدرك لمقاصده وغاياته، ومن هذا الفهم أوقف إقامة حد السرقة في عام المجاعة.
عندما تسلم عثمان رضي الله الحكم، كانت الدولة في أعلى درجة من الرفعة والموارد، وكان تقيا فقيها عالما وضليعا في التجارة، لكنه لم يكن كذلك في الأمور السياسية والإدارية فأوكلها الى بعض أقاربه، فاستغلوا مواقعهم وأوغروا عليهم القلوب، لذا وبعد فترة قصيرة تعرضت الدولة الى سلسلة من الإخفاقات التي أدت الى الفتن والإنشقاقات.
في العصر الحديث كانت هنالك تجربة وليدة لإقامة دولة في مصر يمكن تطويرها لتكون إسلامية، وكان يفترض بالرئيس أن يستلهم تجربة أبي بكر في الحزم لتثبيت كيان الدولة، ورغم أن المخاطر كانت بادية للعيان، فالكل يعلم أن قيام دولة إسلامية عربية من المحظورات، ولدى الكيان اللقيط وحماته الأوروبيين من الوسائل ومن الأتباع في المنطقة ما يمكنهم من إحباط الفكرة، لكن لم يكن المرحوم بإذن الله (مرسي)، أو من حوله من تنبه الى خطورة التآمر، فاستعملوا اللين في غير موضعه، فتركوا أزلام النظام السابق في المراكز الحساسة مثل إدارة الجيش والمخابرات وسمحوا للمتآمرين بالتظاهر، مما مهد الطريق للإنقلاب.
الدين لا يقوم بغير السياسة، وتركها للفاسدين أهم أسباب ما نحن فيه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى