مَخيض مِنْ عَلى ظهْرِ الحمارْ

مَخيض مِنْ عَلى ظهْرِ الحمارْ
د. جودت سرسك

يمرّ الشبابُ في سنِّ المراهقة بخطواتٍ هرمونية يعرفها القاصي والداني ,وتتراوح تلك الخطوات وزيادتها أو انحسارها حسب البيوت وأنماط التربية الأسرية فيها.فلا بدّ من ظهور انفعالاتٍ عاطفية تتمثل بعصيان أمْرِ الأبوين وتجاهل نظام البيت وقوانينه ,والعزلة والركون لمَا يفوح في المجتمع من روائح الانفتاح والموضة ,فقديماً مابين زمن الثمانينيات كان المراهق يركن إلى أم كلثوم وهي تصدح : أروح لمين وعبد الحليم في رائعته :قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب مروراً بعزيزة جلال ذاتِ النظاراتِ العذْبةِ إلى وائل كفوري ونوال الزغبي : مين حبيبي أنا ردّي عليّ وأولِ. وفي زماننا يركن المراهق إلى :سُكّر محلّى محطوط على كريما وأخواتها لتطغى على رومانسيات نانسي وشيرين التي أصبحت من التراث.
قديما قالوا إنّ هاني شاكر الفنان المُرهف قد أفسدَ الطربَ الأصيل مقارنةً بعبد الحليم وأنّ الفنّان (عدويّة) قد أقلق مضجع اللغة وأفسد ذائقتها وصولا لصاحب نموذج الفنّ الذي لا معايير له شعبان عبد الرحيم. ماأجمل الزمن القديم الذي كان الحالم يصفّف شَعره على شيءٍ من الليمون وشوكة الطعام ليصنع ماكان يُعرف بالكوكو الذي كان ثورة على الشَعرِ الطويل والسوالف التي تشبه الجزمة الشتوية, كانوا يتباهون بالبنطال ذي الوسط العالي وعريض القدمين وشيءٍ من الزينة في اليدين والرقبة ,قدْ يعدّها البعض انحرافا وخروجاً عن العرف والتقليد ولكنّها موجةٌ عابرة للقارات تحت ما يعرف بعالم القرية الصغيرة, وإنّ المتتبع للسياسيين ورجالات الدولة والمشاهير سيعرف أنّ لوحتَهم رُسِمتْ بألوان الشهامة والرجولةِ وإن تفرنجوا أو تغربوا. كانت فتاةُ الحيّ في زمن العذرية تحمل خدّين أحمرين وغرّةَ شعرٍ تظهر من تحت الطرحة ,كان المسلمون والمسيحيون والأكراد والدروز والشركس والشيشان يتشابهون في حيائهم وزيهم وملامحهم .
كان الشباب يجتمعون عند طرف الحيّ يستعرضون هواياتهم وأغانيهم ونبض قلوبهم وحمرة وجوههم وينقلبون على أعقابهم لو مرّت معشوقتهم جميعا. كان يكفيهم أن تنظر إليهم وكان يكفيها ورقةٌ مكتوبة بحبرٍ سرّي تحمل عبارة واحدة فقط. كانت نساء الحيّ يصهلن كالخيل ويعلين الزغاريد عند نتائج التوجيهي لتبدأ بعدها رحلة عذاب للمغتربين وأمهاتهم لدراسة الطب والهندسة والشريعة في رومانيا والعراق وروسيا. كانت أم العبد تهدي أم خليل شيئا من البامية المجففة والبندورة المشرحة الناشفة المعدّة على السطوح ,كنّ يجتمعن على قطاف الملوخية ومواسم صنع رُبّ البندورة ,كان الرجال يتهادون أكياس الرز والسُكّر في الأفراح والأحزان .كان الشباب يجتمعون لسماع خُطبِ الشيخ أبو زنط والشيخ حمزة ويتبادلون السجائر وعلب الميرندا الكبيرة ذات الخمسة قروش عند اقرب دكّان بعيد صلاة الجمعة. كان الحُبُّ يملأ بيوتنا وإن كان الأب يرفع يده أو يمسك عصا الكشاطة على زوجته في المواسم , كان الرجال يجيدون لبس الغترة والعقال ويجيدون صبغ الشعر كانوا يجيدون لغة الغزل ذات صباح وهو يحلقون لحاهم على أنغامهم وهم يرددون أغاني محمد عبده: ياريم وادي ثقيف.
كان راتب معلّم الحكومة حيث لا مدارس تعليمٍ خاص, كانت لا تتجاوز التسعين دينارا مغلّفة بالحُب والهدايا وألعاب الأطفال ,كان آخرَ مكانٍ تصله أسرة عمّان هو البحر الميت وكان ثمر الجنة قُرْبَ نبعِ العدسيّة ثمرَ الرمّان ,على انحناءٍ واستحياء وكان أجمل ما يشربونه هو المخيض من فوق ظهر الحمار. كانت قَصّة الكاريه للفتيات أجملَ الموضات وأحلى الزينة ومُطلقَ الجمال, كان للعرس طعم ولسهرة الخميس عبَق , كان لكلّ شيءٍ طعم مختلف فالبطيخ الأحمر القادم من الضفة الغربية قبل شيوعه في عمّان كان مزاجه زنجبيلا. كانت عبارات الحبّ بين الأزواج حييّة صادقة فكلمة يا أم علي الغالية من رجل لزوجته تشحذ همتها عاما كاملا. كانت البيوت تنجب تسعا وأحد عشر وأكثر دون وجعٍ ولا تذمّر ولا عمليات قيصرية وفي كل ولدٍ تنبع أرزاق جديدة فزيادة خمسة دنانير على الراتب تُعدّ مجلبة للرفاهية. كان سطح البيت ملاذا للضيوف وتجفيفَ بزرِ البطيخ في موسم الصيف, كانت حواشي الدجاج من الكبدة والحواصل تُخبّأ لأعز الأبناء أو للزوج قبل تفحّل الأبناء ,كان صوت (بابور) الكاز أجمل الألحان وكان لجن الألمنيوم أوسع البِرك وصابونُ نابلس أفوحَ العطور. كانت البيوت تكتظ بالطرحات والجنابي واللحافات المصنوعة يدويا حيث العرف يقضي جمع الخرق القديمة وإعادة تدويرها في نهاية العام لصناعة الأغطية والوسادات .كان الريح أشدّ ضراوة والشتاء أكثرَ إخصابا والحُبّ يغمر الأسرة من أصغرهم لأكبرهم .كانت عيون الأولاد لا تجاوز ظلّهم عند حديثهم مع آبائهم والنحنحة من حنجرة الأب قانون دفاع بلا رقم.
يصطفّ الجيران والمهنئون لاستقبال العائد من سوريا لتذوق طعم البرازق والبقلاوة وحلاوة الجبن. كان الساسةُ وحدهم مضرَ بدران وسمير الرفاعي وزيد بن شاكر, ولا ملك سوى الملك حسين, ولا وحدة عسكرية غير( خوّ) في آخر العالم.كانت البادية الشماية أو الشرقية لا يعرفها سوى المتخصص بالجغرافيا ,وكان حرسُ البادية مصدر تخويف للأطفال.كان الحبّ سيدَ الموقف وكانتْ سميرة توفيق سيدة الغناء العربي وعبد الباسط هو الإسلام .قد شغفها حُبّا أي دخل حبه تحت شغاف القلب ,عبارة كان يرددها شيخ المسجد ويقول زينوا بيوتكم بالحب ولا تجرحوا مشاعر أم عيالكم . ليت الحبّ يرجع كما كان وليت رجال الحيّ يرجعون كما كانوا وليت النساء تتزيّن بنقوش الأمهات وزينة عقولهنّ قبل زينة وجوههنّ فما أجملهن وهنّ مائلات الأعناق يكوين خصلات شعرهنّ ذات عصيرةٍ لتتناسب مع تنّورة قرمزية استقبالا لابن عمٍّ جاء يطلب يدها .
في زمن المخاض لا شيء يشبه المخيض ولا شيء يحمله فوق ظهره يشبه الحمار.
J_sh_s@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى