من هنا… الى حلب / عبدالرحمن المومني

من هنا… الى حلب
صور متداخلة للألم هي المتراكمة في الروح…. وهذا الدم المراق في الطرقات يغطي العين حتى في اغماضتها… يتصاعد كبخور سحري… تخترقه اليد… محاولة ان تمسح ضباب الألم والحزن… علَّ هذه العين ترى…. لكنها لا ترى سوى مشاهد متداخلة… يختلط فيها الجلادين…. ويبقى الموت واليتم هو الشيء الوحيد الواضح المعالم.
وبعيداً عن السياسة والأدب… أحاول تفريغ هذه المشاهد… دون تحليل او تعمق… فقط مشاهد…
المشهد الأول … النظام “المجرم”.. نسي قبل شن الهجمات على حلب الشرقيه… أن يقطع الاتصالات وبث الانترنت .. مع العلم انه وفقاً للمساحة المحاصرة… فالأمر لم يكن بحاجة سوى لايقاف بضع محطات ارسال… وتخيل اخي المواطن ان انظمة ماكرة نسيت مثل هذا الامر البسيط… وسمحوا للعديد من الفيديوهات والرسائل (الأخيرة).. لأصحابها ان تتسرب وتحرض الرأي العالمي عليهم… ليس فقط نظرياً… وانما بالأدلة المصورة ايضاً.
المشهد الثاني… ماذا لو لم يكن النظام غبي لهذه الدرجة… وفعلاً قام بقطع الاتصال عن المدينة قبل الهجمات.. اذا من أين تم بث (الرسائل الأخيرة)؟؟… فعلياً… اغلب هذه الرسائل تمت من غرف مغلقه (علماً بأن المدينه دمرت والصور ترينا الناس بعشرات الالوف في الشوارع دون مأوى او سكن وسط الصقيع)… والرسائل التي تم تصويرها بين اصوات القنابل في الهواء الطلق… لم يكن يحتوي المشهد فيها على محاصرين… وانما افراد بأعداد قليله. وطبعا هنا… انا لن استمع لرأي صديقي الخبير في لغة الجسد الذي قال لي ان الشخوص الذين بعثو الرسائل من داخل غرف مغلقه… كانوا فعلياً يقرأون نصاً خلف الكاميرا او يستذكرون نصاً ليسو هم من كتبه… لن استمع اليه… فهذا ليس معقول!!!
المشهد الثالث… هو تصوير المشهد بحد ذاته… فنحن نرى تصوير احترافي للمدينة المدمرة (دون اظهار المحاصرين)… كاميرات جوية… واخرى ارضية … تصوير عالي الوضوح… من زوايا متعددة… واخراج سينمائي احترافي… تماماً… كاخراج فيديوهات داعش.
المشهد الرابع… طالما اننا نتحدث عن 80 الف محاصر… ليس لديهم اي انقطاع للكهرباء والاتصالات والانترنت… يملكون هواتف مشحونة وبجودة عالية… ولديهم قنوات خصبة في جميع مواقع التواصل الاجتماعي… ومزودين بفريق عمل سينمائي باحترافية وامكانيات تضاهي هوليوود… لماذا اذا المادة الاعلامية المنتشرة محدودة؟ لماذا يحتاج الاعلام ان (يدحش) صور ارشيفية من العراق واخرى من غزة؟ هنا تحديداً… لن يستطيع احد ان يخبرني اني مخطيء… فذاكرتي ملعونة بصورهم…. صور الاطفال المذبوحين تنام معي في كل مساء… لا تفارقني ابداً … منذ ملجأ العامرية الى اليوم. لماذا يحتاجون هذه الاضافات التي تحمل تصريحات ضد النظام… ومشاهد الموت البشعة والمؤلمة موجودة بوفرة ؟!!! هل لأن الموت صامت… لا يعلم ما يحدث له على وجه اليقين ؟!!!
المشهد الخامس… قبل ثلاث ايام تم التصريح والهجوم من قبل الصحفية الكندية ايفا بارتليت على الاعلام الغربي والعالمي وحقيقة ما يحدث على ارض الواقع… الذي ملخصه (كلمة حق اريد بها باطل)… وليس هذا مهم … دعونا نكذبها هي ايضاً… المشهد المهم هو انه بعد هجومها على فريق الانقاذ والاسعاف وايت هلمت (White Helmet)… بالادلة الدامغة بأكثر من مؤتمر وحادثه.. بانهم فعلياً انتاج اوروبي وبريطاني انفق عليه اكثر من 100 مليون دولار وعلى ارض الواقع هم فريق مساند لداعش وجبهة النصرة على حد سواء… والعديد من الفيديوهات تثبت تورطهم ببعض الاغتيالات وعمليات القتل في سوريا… وتثبت غيابهم التام عن الحصار في حلب… وبقدرة واحد احد… بعد هذا الهجوم عليهم… يتم ترشيحهم امس لجائزة نوبل للسلام لانقاذهم 60 الف محاصر في حلب.!!!!
المشهد السادس… هو تعقيب للمشاهد السابقة… فعبر ال 25 سنة الماضية فقط… ولن اعود للوراء اكثر… ملايين الاطفال والنساء والشيوخ… ذبحوا ذبحاً وشردوا واغتصبوا وحرقوا… في العراق وفي فلسطين وفي سوريا… ولم يتحرك ساكناً من الضمير العالمي… منذ بداية الازمة السورية… كان الاعلام الغربي يناقش القضية السورية على انها قضية لاجئين… ومن المفترض أن التاريخ علمنا… انه حين ينظر الاعلام الغربي لقتل اطفالنا ونسائنا بنظرة انسانية بهذا الحجم من التضامن يصل الى ان تطفيء فرنسا اضواء برج ايفل… فلا بد من وقفة تأمل… نمسح بها دموع الألم… ونفكر.
المشهد السابع… شيخ هناك يمارس طقوس الكهنوت القديمة وينصب نفسه رجل دين… (هنا سادتي اقصد فئة من مشايخ السلطان… اما رجل الدين الواعي والمدرك والمثقف والحر فهو غني عن التعريف به والدفاع عنه)… ويدعو شيخ السلطان على النظام السوري والروسي مثل الندابات في المآتم… ويقدم الشكر لباقي الجلادين… عن مكر حيناً وعن غباء في اغلب الاحيان… ويقول ليس بيدنا سوى الدعاء… ويستمر لطم الندابات…. وفي اليوم التالي يقول له ابنه… (ابي… لدينا اليوم اعتصام في الجامعة تضامناً مع حلب وتعبيراً عن الرأي)… فيقول له (يلعن ابوك عرص… شو الك دخل بالسوالف هاي… انطم واسكت)…. او يسألونه تبرعاً بمقدار دينار واحد …. فيجيبهم (مش مستعد اتبرع لانه كل التبرعات رح تنسرق والبلد كلها حرامية)… وهذا الشيخ ليس بالضرورة رجل الدين… فكما نحن كشعب نحترف الصيدلة والطب… فنحن ايضا نحترف التنظير الديني… والكل يفتي ويتشدق بامور الدين والتبرير الديني لكل سلوكيات حياته الرثه… واذا ما ناقشته و اوصلته لخانة (اليك) … وحشرته في زاوية الجهل… قال لك… هناك من هو اعلم مني ومنك في امور الدين… فدعنا نترك امور الدين للراسخين في العلم من رجال الدين…. أولائك الذين درسوا الشريعة لانها خيار التنسيق الموحد لهم… وقرأوا ما يزيد عن 4 كتب ونصف خلال الدراسة الجامعية واجتازوها بتقدير مقبول… نعم سادتي أولائك الذين يجب ان نسلم لهم مصيرنا الانساني… طالما نحن أميين لا نقرأ.!!!
وتكثر المشاهد… وتتراكم على الروح والقلب…. فيها الجلادين من كل حدب وصوب… وليس النظام المجرم في نظري بأسوأ من خصومه… تكثر المشاهد وفيها الخانعين… المسحوقين في عمقهم قبل ان يكونو مسحوقين سياسياً وانسانياً… تحركهم انفعالات عمياء لا تبصر موضع القدم… ينحازون تلقائياً بعد خطبة الجمعه الى احد الجلادين دون شك… تكثر المشاهد وفيها الدم المراق والجياع يا (سياب)… هل تسمعني؟!! تعال وانظر للدم المراق والجياع… تعال لتعلم كم سبق خيالك الزمان بوصفك المطر !!!
وبعيداً عن كل المشاهد… بعيداً عن خشبات المسارح… عن المؤامرات والمكائد… عن الصفقات التي اتفقت جميعها على طمس الحقيقة…. تبقى حقيقة وحيدة تستحق ان نحملها في ارواحنا … وهي… الموت !!!
هذا الموت الذي يتربص بهم اينما التفتوا… يسرق شعله الحياة وصورة الله في الارض لا لشيء … كل ذنبهم انهم وجدوا على الارض التي تعقد الصفقات والمؤامرات عليها ولها … بين هذا وذاك وذاك… والحقيقة التي يجب ان يعلمها الجميع… انك بانحيازك لأي طرف من الاطراف…. تكون قد اعترفت بالقتل شريعة لنا…فمتى… سننحاز جميعاً للانسان؟! … متى سننحاز لحق الحياة؟ متى سننحاز للأيتام والأرامل… للمغتصبين والمهجرين… متى سنعلم ان شريعة الغاب ستنتهي بعالم اعمى… آخر ما سيبصره هذا الأعمى… هو الاطفال المذبوحين والامهات والشيوخ المهانين والمذلولين… والنساء المغتصبه… آخر ما سيبصره العالم الأعمى… هو الانسان.
لك الله يا حلب… اغتالك الروم والمغول والفرس وتوالت على صدرك الحروب… دكوا أعمدتك وعاثوا بك فساداً… وكنتِ دوماً اقوى من جلاديك… تنهضين دوماً من رحم الموت… منارة للجمال و للحياة !!!

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى