من صور البطولة على ساحة الأرض المقدسة

بمناسبة الحديث عن يوم الوفاء للمتقاعدين العسكريين والمحاربين القدامى، أرغب بتذكير أبطال اليوم ببطولات من سبقوهم في حرب عام 1948.

* * *

من صور البطولة على ساحة الأرض المقدسة
الهجوم على قرية البرج
موسى العدوان

ازداد الموقف حرجا يوم 15 تموز 1948، حيث أكمل اليهود احتلال القرى المواجهة لمنطقة اللطرون، وركزوا بها قوة كبيرة تتألف من لواء مشاة ولواء مدرع، منها كتيبة في قرية البرج وأخرى حول قريتي بير ماعين وعجنجول، والكتيبة الثالثة وضعت بالاحتياط في قرية سبليت، وتمركز اللواء المدرع حول قريتي عنابة وجمزو. كانت القوات الأردنية في هذه الأثناء تخطط للهجوم المعاكس على موقعي البرج وبير ماعين، وتنفيذه بأسرع
وقت ممكن استباقا لهجوم العدو المتوقع.

في صباح يوم 16 يوليو وردت معلومات من قائد اللواء إلى قائد الفرقة، بأنه قد حصل هياج بين جنود الكتيبة الثانية في اللطرون، وأنهم تمردوا على قائد الكتيبة البريطاني الرائد (لوكت) مطالبينه بالهجوم على اليهود، لأنهم غير مقتنعين ببقائهم في مواقع دفاعية دون عمل في اللطرون، خاصة بعد احتلال اللدّ والرملة، وأصبحت معنوياتهم تنحدر إلى الأسوأ.

قرر قائد الفرقة إرسال الرائد عبد الله التل إلى الكتيبة الثانية، ليشرح لهم خطورة ترك موقع اللطرون الإستراتيجي الذي سيحتله اليهود في حالة إخلائه، وأن هناك خطة تحت الإعداد للهجوم المعاكس في اليوم التالي، إلا أنه لم يفلح في تهدئة الجنود. وعليه فقد تم بعد ظهر يوم 16 يوليو وبصورة مستعجلة، تجميع قوة هجوم معاكس بقيادة الرائد لوكت، وجرى حشدها في قرية بيت نوبا، وتعزيز الدفاع في منطقة اللطرون بِ 100 جندي من الكتيبة الرابعة، إضافة لِ 150 مناضلا من القرى المجاورة. وتشكلت قوة الهجوم من القطعات التالية :

– سرية المدرعات الثانية – بقيادة الملازم حمدان صبيح البلوي.
– سرية المشاة الثانية – بقيادة الملازم محمد كساب.
– سرية المشاة الثالثة – بقيادة الملازم رفيفان خالد الخريشه.
– فصيل مدافع 6 رطل ضد الدروع – بقيادة الملازم حيدر مصطفى.
– مجموعة إسناد الكتيبة مؤلفة من 4 مدافع هاون 3 إنش + 4 رشاشات فكرز.
– سرية مدفعية الميدان الثانية بإسناد الهجوم.

قام قائد الكتيبة بالاستطلاع وأصد أوامره بالهجوم على موقع قرية البرج، لكونها تقع على ربوة عالية تشرف على المنطقة المحيطة بها وعلى الطريق الرئيسية. ولكنه أهمل موقع قرية بير ماعين الواقعة على مسافة كيلو متر واحد إلى الجنوب من قرية البرج، لاعتقاده بأنها خالية من العدو. وقرر أن يكون خط البدء طريق بيت سيرا – اللطرون، وأن تكون ساعة الصفر الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر. تلخصت الخطة بأن تتقدم سرية المدرعات في طليعة الهجوم تتبعها سريتي المشاة، تحت ستار من نيران المدفعية وأسلحة الإسناد.

شرعت هذه القوة بالهجوم في الوقت المحدد، تتقدمها سرية المدرعات بقيادة الملازم حمدان صبيح تتبعها سريتي المشاة. وعندما وصلت القوة المهاجمة إلى خط البدء، فتحت القوات اليهودية النار عليها من موقع بير ماعين، الذي ظن قائد الكتيبة أنه خال من العدو. ولم يكن أمام القوة من خيار إلا التقدم بسرعة نحو الهدف وهو قرية البرج، إذ كان من غير الممكن تعديل الخطة في تلك اللحظات الحرجة. ومما زاد الموقف صعوبة أن أشعة الشمس الساطعة كانت تواجه عيون الجنود أثناء تقدمهم إلى الهدف.

احتدمت المعركة حيث صب العدو قذائف أسلحته على المهاجمين، من موقعي بير ماعين ومرتفع قرية البرج. وفجأة خلال التقدم صاح سائق مدرعة قائد السرية : ” لقد أصبت . . لا أستطيع أن أرى . . يبدو أنني فقدت عيني “. إذ كانت إحدى الشظايا قد اخترقت إحدى عينيه وأخذ الدم يتدفق من وجهه. فأجابه قائد السرية الملازم حمدان :
” ليس المهم أن ترى بعينيك . . اضغط على دواسة المحرك بقدمك بكل قوة وسق إلى الأمام “.

أطاع السائق الشجاع أمر قائده ونفذه فورا، فاستمرت المدرعة باندفاعها نحو القرية، ولكنها لم تلبث أن أصيبت بقذائف مدفع ( بيات ) من كمين جانبي وتوقفت ثم انقلبت، حيث اخترقت الشظايا جسم حمدان. وعندما نقل فيما بعد إلى المستشفى نزع الطبيب من جسده أكثر من مئة شظية. ولكن رغم ذلك فقد كتبت له النجاة فشفي وعاش بعد الحرب.

تمكنت القوة المهاجمة من احتلال الهدف، إلا أن اليهود قاموا بهجوم معاكس وبقوات متفوقة، اضطرت المهاجمين إلى الانسحاب من قرية البرج، ولكنها تلك المعركة عطلت تقدم العدو إلى مواقع أخرى.
* * *
الدروس المستفادة :
1. كان ضباط وجنود الكتيبة يتمتعون بمعنويات عالية، ويتحفزون للهجوم على العدو، ولم يقتنعوا بكل المبررات التي قدمها لهم عبد الله التل.
2. لم يكن استطلاع قائد الكتيبة دقيقا، فلم يكتشف قوات العدو المدافعة، ولم يكتف أيضا وجود قوات للعدو في موقع بير ماعين، وهي التي تدخلت في هجوم الكتيبة الثانية في مرحلة حرجة، بعد اجتياز خط البدء.
3. لم تكن قوة الهجوم كافية لتنفيذ العملية إذ يجب أن يكون المهاجم ثلاثة أضعاف المدافع، فحدث أن هاجمت الكتيبة الثانية كتيبة للعدو متخندقة في مواقع محصنة.
4. تم تخطيط الهجوم بصورة مستعجلة، ونُفّذ نهارا دون تحضيرات كافية، حيث كانت أشعة الشمس في عيون المهاجمين، فأثرت في دقة إصابة الأهداف.
5. أبدى سائق مدرعة قائد السرية الذي فقد عينه، باستمرار الاندفاع نحو الهدف كما أمره قائد سريته الشجاع الملازم حمدان، إلى أن أصيبت المدرعة بالصواريخ المعادية، فانقلبت وأصيب أيضا حمدان بجراح بليغة.

( رحم الله الشهداء وبارك الله بالمحاربين القدامى أحياء ومتوفين ).

التاريخ : 17/ 2 / 2020

المراجع:
– أيام لا تنسى / سليمان موسى.
– حروبنا مع إسرائيل / صادق الشرع.
– عبد الله التل – الجزء الأول / الدكتور أحمد يوسف التل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى