من ذاكرة البدوي -5 / منصور ضيف الله

ماركا هادئة وادعة ، سوى من مبنى الترخيص ، وجلبة أصحاب السيارت وقلقهم على تجاوز الفحص الفني ، ونرفزات العم ” أندراوس ” وانهماكه العميق بالنزول إلى أسفل ، وتفحص كل شيء باناة وعمق . حي الأمن العام بني على عجل ، مائة وحدة سكنية ، كل وحدة تتكون من غرفتين ومطبخ داخلي ، ومرفق صحي . استقر الطفل في المنزل رقم 99 ، بجوار ال الرواد . لم تكن معالم ماركا متنوعة ؛ مزارع جاك خياط ، المستشفى العسكري ، مصنع البطاريات السائلة ، ومرأب مؤسسة النقل العام ، ووادي الونانات . وللوادي معالم آية في الروعة ما زالت محفورة بالذاكرة ؛ شجرة ضخمة علقت على أغصانها آلاف الخيوط والقطع القماشية ؛ تبركا بروح الشجرة ، وجلبا لغائب او حبيب ، وربما توسلا بقدوم صبي يحمل اسم العائلة . على مبعدة منها ثمة بئر عميقة ، اسطوانية، لا قرار لها ، وثمة درجات حديدية تفضي إلى القعر . أما الأكثر بهاء فهي تلك الغرفة الحجرية منذ زمن الأتراك ، وعلى زاويتها شجرة مشمش باسقة اعتاد الطفل أن يرتقي أغصانها ويأكل منها ما استطاع . في مدرسة عباس محمود العقاد امضيت نهاية المرحلة الابتدائية ، متفوقا في الدراسة ، شقيا ، اقضي جل وقتي بالمشاجرات والخصومة ، ولي أن اعترف ، لقد مارست التشرد على أصوله ، أجوب الحواري والأزقة ، وأقضي بقية النهار في لعبة كرة القدم ، وبعيد المغرب ادخل البيت لاواجه بعاصفة من سباب ثم “علقة ” بما تيسر ، لأعود في اليوم التالي أكثر شقاوة ؛ ماسح سيارات ، او بائع مشروبات ، او مبارك لنجاح في الفحص ، وفي اواخر كل عام الأول على الصف ، متلقيا تهاني المدرسين على جدي ومواظبتي !!! اعتدت أن اذهب نهاية كل أسبوع إلى قلب عمان ، مدينة يجري فيها كل شيء بنظام ، الباعة المتحولون ، نداءات الكنترول ، والسلالم الخشبية الموصلة بين حافتي السيل ، وسوق ” نيكسون ” للملابس المستعملة . ظلت عمان وادعة ، وسماؤها صافية إلا من أزيز طائرات حربية إسرائيلية تعبر على ارتفاعات شاهقة ، ورجال جدد مدججون بالسلاح ، لم يكونوا رجال أمن عام ، شباب يأتون من بعيد ويمرون متباهين . تناقض منطق الدولة والثورة ، والنظام والفوضى ، وتجمعت السحب الداكنة ، واكفهرت الأجواء وتوترت ، وامطرت حربا جديدة ، ليس على الحدود ، بل في قلب المدينة ، وسقط كثيرون ، نفد الماء ، فقدنا الطحين ، وغاب الوالد . طوال سنين طفولتي لم يؤلمني شيء كغياب الوالد ، اعتدت رؤيته كل شهر ، وقد ترك ذلك جرحا في النفس .هذه المرة طال غيابه ، كان مسؤولا عسكريا في البادية الشمالية ، غابت أخباره ، ونحن أحوج ما نكون إليه . تدبرنا أمرنا ، واجهنا الموت ، ومضت الايام . إلى أن كان صباح أيلولي ، بلا ورق ، وليس بصوت فيروز ، قرع الباب ، ودخل شاب يضع نظارات شمسية ، كان حليق اللحية ، رائع الهندام ، اختفى شماغه ، ولم يبرز مسدسه ، صدمت لوهلة ، دققت النظر جيدا ، وخلع نظارتيه مبتسما ، والدي ! قفزت من الفرحة ، احتضنته ، لقد عاد ، ولد من جديد ، ودبت الروح . لم أفكر كثيرا في سبب التغيير الطارىء على والدي ، وظل محتفظا بالسر ، بعد عقود عرفت أنه تعرض لمحاولات اغتيال ، وكان لا بد مما ليس منه بد .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى