مكيال السرايا .. ومكيال القرايا !!

مكيال السرايا .. ومكيال القرايا !!
د. محمد يوسف المومني

قصتنا هذه لا تحتاج إلا لبعض البهارات المعتادة حتى تبدو طازجة.. وشهية.. ومعدّة للتو على نار الزمن الحاضر.. الحكاية تقول : في زمن الدولة العثمانية… كان أحد الأمراء وكيلاً لمطحنة وحيدة يملكها أحد باشوات (آل عثمان) الكبار… وهذا الباشا ترك للأمير العربي إدارتها… وساعات تشغيلها… و صيانتها… كون الأرباح تعود للباشا العثماني وللأمير مناصفة .
ولأن الأمير أمير ولا يريد أن يضحّي بمكانته وهيبته وسمّوه… لينزل إلى معاركات الفلاحين اليومية وتنظيم الدور وتفقد الدواليب… والإشراف على العمل بنفسه… كما لا يريد أن يغبرّ طربوشه الأحمر القاني بغبار الطحين .. فمكانه الطبيعي القصر لا بيت المطحنة وهناك في القصر ستأتيه أرباحه كاملة وهو جالس في مكانه وبين ساقيه أرجيلته المزركشة.. لذلك فقد كلّف الأمير طحّاناً يتولى شؤون المطحنة التشغيلية.. وطلب منه أن يكون صارماً وحازماً وغليظاً مع الفلاحين والفقراء فهؤلاء كما أخبره الأمير (ما بينعطوا عين).. كما طلب منه الأمير أن يستوفي أجراً عن كلّ مدّ قمحٍ (ثمنيّة طحين) مع العلم أنّ الثمنيّة هي مكيال يعادل 1\8 من المد ولذلك سميت ثمنيّة… في الصباح الباكر يفتح الطحان بوابة المطحنة… يتفقد مسننتها…. ينظف بيوت العنكبوت في زوايا السقف العالي… ويطلب من الزبائن الوقوف تباعاً… ممنوع الجلوس… ممنوع الكلام… ممنوع النقاش…. ممنوع الجدال.. فلا صوت يعلو على صوت المطحنة.. ومن ينهي (طحنته) عليه أن يغادر فورا.. لكن قبل ذلك يجب أن يدفع الأجرة من الطحين الطازج…
لاحظ بعض الزبائن أن الطحان يكيل القمح قبل طحنه (بصاع) أصغر حجمًا ممّا يجب أن يكون ثم يستوفي الأجرة طحينًا بثمنيه أكبر حجماً ممّا يجب أن تكون.. فبدأ الفلاحون يتناقلون الملاحظة ويتساءلون فيما بينهم فكل منهم يعرف المكيال وخبير به فهو مقياس التجارة والمقايضة اليومية في القرية , أخيرا سرت بين الناس موجة من التذمّر بلغت مسامع الأمير… وكعادة الامراء لا يحلون المشكلة ولكنهم يستبدلونها بمشكلة أخرى .. قام الأمير بإصدار قرار فوري بإقالة الطحان القديم واستبداله بطحّان آخر , تالياً عليه نفس التعليمات: عليك أن تكون حازماً صارماً وغليظاً مع الفلاحين, وعليك أن تترك شكواهم إن كان لهم شكوى لكي تتصاعد وتصلني فأحلها بمرسوم أميري أو بمكرمة يتلقّونها بسعادة غامرة .
مرّت أيام قليلة على الطحان الجديد وإذا به يستخدم نفس الصاع ونفس الثُمنية , لفت الناس انتباه الطحان إن ما شكواهم من سابقه إلا على ذات الصاع والثمنية, لكنه لم يستمع للشكوى واستمر بجلب الأرباح للأمير بمكاييل المطحنة نفسها.. فثمنيّة الأمير ما بتغلط وانما أيديكم هي العوجاء, ابتلع الحضور شكواهم واضعين أياديهم العوجاء على قلوبهم خوفاً واعتذاراً ليستمر الطحن على نفس المنوال .
تعالى الاحتجاج من جديد واشتدّ الهياج فبادر الأمير بمكرمة إبداله بطحان آخر…. بالطبع الطحان الجديد استخدم نفس الأدوات حيث بقي الصاع وبقيت الثمنيّة .. فشكلوا وفدًا لمقابلة الأمير وعرضوا الأمر عليه التدخل المباشر لينصفهم من جشع الطحانين !
وما أن جلسوا في مجلس الأمير حتى خاطبهم بلسان الحكمة: (إخواني.. أحبائي.. تعرفون جيداً أن لا هم لي الا همّكم.. أنا منكم وأعمل ليل نهار لأجلكم.. والمطحنة مطحنتكم ولا تهمّنا إلّا مصلحتكم…) وقد أبدلنا أولئك الحرامية من المطحنجيّة حرصًا على المصلحة الوطنيّة وإذا كان من يتولّى المطحنة حاليًّا ليس على (قد الخاطر) أبدلناه بسواه حتى يأخذ الحقّ مجراه , فقالوا: “ولكن طال عمرك فإنّ العلّة ليست بهؤلاء الطحانين بل بالوزن وبالصاع والثمنيّة !!

فصاح بهم الأمير محتداً…
لحدّ هون وبس.. الصاع صاع الإمارة والثمنيّة ثمنيّتها… ولا أقبل أن يتطاول أحد على نظام الإمارة وقوانينها… هذه أدواتنا وهذه مكاييلنا…
فثمنيّة الأمير ما بتغلط…
وانما أيديكم هي العوجاء…
ابتلع الحضور شكواهم واضعين أياديهم العوجاء على قلوبهم خوفاً واعتذارا … ليستمر الطحن حتى اللحظة .. ويستمر الكيل بمكيال الامارة .. وكل طحان وطحنة ومكيال وانتم بألف بخير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى