ثلاّجة يا ثلاّجة / د . ناصر نايف البزور

ثلاّجة يا ثلاّجة

الكهول من الناس ما زالوا يتذكّرون الحياة قبل أربعين عاماً عندما كانت جميع البلدات و القرى الأردنية باستثناء المدن الكبرى تخلو من كائن فضائي يُسمّى الثلاجة… كانت الجرّة و الخابية مصدراً وحيداً للماء البارد العذب… و كانت “الساطرة” مخبأً لبقايا الطعام (هو أصلاً لم يكن هناك بقايا طعام… فالطايح رايح) 🙂
و فجأة بدأت جيوش الثلاّجات تزحف ببطئ نحو بيوتنا و بدأت الخابيات و الساطرات بالتقهقر و الانسحاب شيئاً فشيئاً و دون مقاومة حقيقية ( على رأي الجيش العراقي في فلسطين: ماكو أوامر) حتّى خَلَت ساحة المطابخ بالكامل للثلاّجات الأجنبية الغازية؛ تماماً كما انسحبت الجيوش العربية أمام التوسّع و المد الصهيوني حتى احتلّ الصهاينة كامل فلسطين… مع فارق القياس بالطبع… فالثلاّجة جاءت لتحسين حياتنا و الحفاظ على طعامنا و خيراتنا فيما جاء الصهاينة لتدمير حياتنا و نهب خيراتنا… 🙁
بيت القصيد يكمن في دراسة دورة حياة الثلاّجات لدينا… فقد أنعم الله علينا بشراء أوّل ثلاّجة في نهاية السبعينات من القرن المنصرم و كانت من أعظم “عجائب البيت السبعة” بالإضافة إلى التلفاز، و الراديو، و الغاز، و صوبّة الفوجيكا، و بالطبع آبائنا و أمّهاتنا… 🙂
دخَلت عطوفة السيّدة “ثلاّجة” مطبخ بيتنا الذي كان يُشبه الثكنات العسكرية و أبلَت بلاءً حسناً في العقد الأول من عمرها المديد… ثُمَّ بدأت صحّة الماتور تتدهور و أصبحنا ننقلها إلى غرفة الطوارئ بين شهرٍ و آخر… حتّى جاء وقت القرار الصعب فقمنا بشراء ثلاّجة جديدة… و تمّ تسريح معالي الثلاّجة الآولى من خدمة التبريد مع احتفاظها بمزايا و امتيازات الخدمة البيتية كخزانة ملابس في غرفة النوم لبعض الوقت… 🙂
و بعد عامٍ أصبحت الثلاّجة خزانةً للأحذية عند مدخل الغرفة حتّى بدأ جسم الثلاّجة السمين بالاهتراء التدريجي فتمَّ نقلها إلى الساحة الخارجية الترابية لاستخدامها في بعض ألعابنا الرائعة كمخبأ في لعبة “الكُمستير” أو ملاذ في لعبة “عالي وط وط”…. 🙂
و بعد قرابة العامين قمت شخصياًُ بشراء بعض صيصان الدجاج الملوّنة و شرعتُ باستخدام تلكم الثلاّجة المخضرمة كقِنٍّ أو خُمٍّ للدجاج لردحٍ من الزمن… حتّى أزِفَت الآزفة و جاء وقت الرحيل بمرور “بكم” الخردة الذي كان و ما زال يُشنّف آذان الأردنيين بعد الأكل و قبل الأكل بسنفونيته العذبة: “اللي عنده بلاستِك….، حديد خربان للبيييييييييع”!!! عندها أستوقفنا سائق البِكم “المخلّع” و تفاوضنا معه على السعر بشكل أكثر براعة من المفاوضين و الساسة العرب في مفاوضات “اوسلو” مع الصهاينة 🙂 و تمَّ بيع المرحومة “ثلاّجة” بعد ثلاثة عقود من العطاء بإخلاص كما حصل مع الحصان “بوكسر” في رواية جورج اورول الشهيرة “مزرعة الحيوانات”…. 🙁 تمّت مراسم التأبين و الوداع الأخير و أطلقنا مدافع أصواتِ حناجرنا بإثنتي عشرة طلقة تكريماً للفقيد و الراحل الكبير… 🙁
حديثي عن ثلاّجتنا العزيزة جعلني أستذكر العزيز الكبير معالي ناصر جودة الذي دخل في الخدمة الدبلوماسية في نفس الوقت الذي دخلت فيه ثلاّجتنا الخدمة المنزلية… ثمّ تدرّج في المناصب من منصبٍ إلى منصب بين سفارة و أخرى و منصب و زير خارجية و آخر؛ و أبلى بلاءً حسناً؛ فقد كان دائم الترحال و التجوال في الكثير من الهام الدبلوماسية الجسام حتّى تمَّ استبداله بوزير خارجية آخر العام الفائت…
و ها هو اليوم معاليه يعود سالماً غانماً إلى سلك الخدمة التشريعية في مجلس الأعيان (فمرحباً بمعاليه) … و لربّما تكون له إطلالة أقوى في قادم الأيّام كوزير خارجية من جديد أو حتّى رئيساً للوزراء… 🙂
و للأردنيين النشامى نقول: ما دام كلُّ واحدٍ منكم لديه ثلاّجة، فعليكم في هذا الجو الحار ببعض الماء المبرّد “و حطّوا أديكم و رجليكم بميّه باردة” فالمسؤولون في بلادنا لا تنتهي خدمتهم للوطن لإنّ عطاءهم لا ينضب و خلايا أجسامهم لا تشيخ و الماتورات عندهم ثمانية سلندرات “جنرال متورز”؛ فهي لا تتوقّف أبداً… 🙂
و بالتالي فإنّ قياسكم الحالة السياسية على حالة ثلاّجتنا فاسدٌ و غير مُنضبط؛ و لن يكون هناك “بِكم” يُنادي: “اللي عنده بلاستك… ثلاّجات… مسؤول متقاعد للبييييييييع” 🙂 فجميعنا يعرف القانون الفيزيائي (بعيداً عن جدليته الدينية الفلسفية) الذي ينصُّ في مجال حفظ الطاقة على أنَّ “الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم ولكن يمكن تحويلها من صورة لأخرى…” 🙂
و اللي مش عاجبه رح يكبّوا على وجهه و ربّما على قفاه مَيّه باردة… 🙂 و الله أعلمُ و أحكم… و الله و تلولحي يا دالية… بلادي و الله غالية 🙂

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى