“متسوّل الموت”: صحراء لداعش وشهرزاد

لعل صور الموت التي باتت تتداولها المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام بشكل موسّع، وتطرحها على الناس بضاعة قابلة للاستهلاك المباشر، باتت تضرب بحدّة قشرة البيضة التي يحب أن يعيش داخلها الفكر، بعيداً عن قسوة المصارحة الذاتية. الحديث عن الموت، “في زمن عربي يتعفّن فيه الموت”، يصبح تحدياً مضاعفاً، فهو محاولة للفهم، وهو أيضاً محاولة لترميم ما تبقى لهذه الفكرة/ الحالة من رمزيات، بعد أن أحاطت بها الصورة المرئية فحوّلتها إلى لعبة بصرية ذات أهداف جيوسياسية، تكاد تكون معلنة. في كتابه الذي خصّصه لهذا الموضوع، “متسوّل الموت.. بيان من أجل الموت العربي” الصادر في تونس مؤخراً، يلاحظ المؤلف الطاهر أمين، كيف تحاول داعش تحويل الموت إلى أسطورة جماعية، غير أنه لا يقف عند “داعش”، بل يفتح أفقاً للنظر في شأن الثقافة التي ينبثق منها، تلك التي طالما كان تصوّرها للموت “غارقاً في البربرية” معتبراً أن “الموت الجماعي هو كل ما بقي من كذبة الأمن القومي”. يمثل هذا الكتاب الذي جرى تقديمه، يوم الجمعة الماضي في “دار الثقافة ابن رشيق” في تونس العاصمة، خطوة جديدة من المشروع الذي انطلق المؤلف في الاشتغال عليه بعد الثورة التونسية، بما عرف بـ “ثلاثية البؤس” (“بؤس الثورة”، “بؤس الثقافة” و”بؤس الهوية”) قبل أن يدخل في مرحلة يسميها محاولة تأسيس فكر نقدي جديد.

“متسول الموت” عمل يتخذ مقاربة جديدة، أسلوبياً على الأقل، حيث يوظف أمين الشذرات لكتابة تأملية معاصرة حول الموت كفضاء لقول الكثير عن واقعنا. حول العمل، قدّم الكاتب والباحث التونسي، محمد صالح العياري، ورقة بعنوان “القتل الأخير لميتافيزيقا الموت”، حيث أشار إلى أننا “كعرب، لم تتح لنا فرصة التدرّب على الموت” في استعارة للعبارة الأفلاطونية. يرى العياري أن “الصورة المرئية باتت تتفنن في نقل صورة الموت” وأن “طقوس الموت أصبحت بائسة وعارية من كل ميتافيزيقا، وأصبح الموت خالياً من الدلالة ومفعماً بالتفاهة، ونص أمين يواجه هذه الإشكالية في محاولة لإنقاذ قيمة الموت من الموت المجاني”. تحدّث العياري أيضاً عن “إدمان السلطة العربية للموت” في جزء من مداخلته بعنوان “القتل خارج الموت”، حيث يشير إلى مأزق السلطة العربية والذي لا مخرج منه إلا بطلب الحرية والكرامة أو الذهاب بالجميع إلى الموت، معتبراً أن داعش معادل موضوعي لهذه السلطة، وأنها عنوان لانتحار الأمة. في ختام حديثه، كشف العياري عن أنه كان يفضّل لو تناول أمين الموضوع ضمن كتابة بحثية، وليس على شكل شذرات (يسميها المؤلف كتابة مقطعية)، ليردّ الأخير بأنه اختار هذا الشكل تجاوزاً للنسقية الفكرية. يشير أمين إلى أن كتابه وإن جعل من الموت موضوعه إلا أنه لا يتضمّن تعريفاً للموت. يقول: “يوجد عجز لغوي، الموت لا نحسن أن نصفه، أما النقيض (الحياة) فهي مثل سجن يخرج منه كل يوم فرد لكي يعدم”. من خلال مقاربته للموت، يسعى أمين لتفكيك مشاريع التدمير التي تتعرض لها الأمة العربية. يقول: “ما يحدث ليس إلا تهيئة لقرن أميركي جديد” مضيفاً أن “أميركا تمارس الإدهاش، بالحرب والسينما، ليستحيل التمييز بين الحضارة والبربرية”، من هنا جاءت داعش “صانعة مشهداً يشبه ذلك الذي يظهر في لوحة (انتصارالموت) للرسام الهولندي بيتر بروغل” في إشارة إلى المرجعيات الغربية لهذه الظاهرة. يرى أمين أن أمام المشروع التخريبي، يؤجل المثقفون الأسئلة معتبراً أن الحاضر نص جديد ينبغي أن يُكتب، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أدب كبير ومسرح كبير. يصوغ هذه الفكرة من خلال استرجاع كتاب “ألف ليلة وليلة” حيث أننا مثل شهرزاد محكوم علينا بالإعدام، ولا سبيل إلى أن نطيل حياتنا إلا بجعل الحكاية حيلة الحياة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى