مبتدأ وخبر

مبتدأ وخبر
د. هاشم غرايبه

المبتدأ: أبو جميل كان فلاحا كسائر اهل القرية، ورغم أن انتاج أرضه من القمح والعدس كان يكفي مؤونته ويبيع ما يزيد، إلا أن القرش الذي يدخل جيبه يكنزه، ولا يعطي مصروفا لزوجته، التي كانت لا تجد غير البرغل والعدس طعاما لأولادها، فكانت وجبتهم شبه اليومية “المجدرة”.
زادت حدة تذمر الأولاد من هذا الطعام المكرر، واتفقوا على الضغط على أمهم بالإضراب عن تناول الطعام إلا أن تغير في هذه الوجبة التي ملوا منها.
قالت لهم: لقد وجدت الحل الذي سيرضيكم، فقد نويت أن أطبخ لكم في الأيام الأربعة القادمة أربع طبخات مختلفة، سيكون الطبق غداً عدسا، وبعد غد برغلا، والذي بعده عدسا مع البرغل، واليوم الرابع برغلا مع العدس.
الخبر: عندما اتفقت بريطانيا وفرنسا على تأسيس الكيانات العربية الحالية، نشأ نقاش هامشي على أي الأنظمة (الملكي أم الجمهوري) يمكن أن يكون محققا لمتطلبات التبعية للغرب، ومانعا من العودة الى دولة الإسلام الموحدة للعرب، بالطبع بريطانيا تميل الى النظام الملكي، فاختارته للأنظمة الواقعة تحت هيمنتها مثل الأردن والعراق والسعودية ومصر، فيما اختارت فرنسا النظام الجمهوري في منطقة نفوذها كلبنان وسوريا والجزائر وتونس، فيما اختارت اسبانيا النظام الملكي للمغرب، وليس معروفا لماذا اختارت ايطاليا النظام الملكي لليبيا.
كما اختارت بريطانيا تقسيم الساحل الشرقي للجزيرة العربية الى إمارات سمتها متصالحة، لتسهيل إخضاعها بعد أن ظلت قرونا تهدد التجارة الأوروبية مع الشرق.
هكذا يتأكد لنا التضليل البالغ وراء تسمية تأسيس أقطار (سايكس بيكو) بمرحلة التحرر الوطني، وأصبحنا لا نستبعد ضلوع حتى ما كانت تسمى القوى الوطنية بالمؤامرة، لأن اعتبارها تلك المرحلة استقلالا ومسارا تقدميا، سواء كان ذلك توهما ينم عن غباء سياسي، أو تآمرا لتخدير الشعوب، هو ما أنام الأمة على أوهام كاذبة، لتصحو على هزائم مبيتة وتخريب مدمج بالفساد.
التخدير اعتمد على وهم الديمقراطية المزيفة، لذلك اعتمد الغرب أربعة نماذج لدول المنطقة:
الأول: حياة برلمانية وانتخابات هي شكلياً تجرى بصورة توحي بحرية الاختيار، لكنها مقيدة بقانون يمنع وصول غير الإنتهازيين وأزلام النظام، وتضبط العملية الإنتخابية بكاملها من قبل الأجهزة الأمنية لضمان أن المنتج يكون إما مرتبطاً بها أو خالي الدسم لا يقدم ولا يؤخر، بحيث لا تتأثر السياسات الرئيسة للنظام، مثال ذلك الأردن ولبنان والمغرب.
الثاني: حياة برلمانية صورية، والبلاد فيها دستور وسلطات ثلاث، لكنها فعليا واجهة تجميلية لا دور لها، فالحكم فيها شمولي يدار من قبل شخص واحد هو الزعيم المفدى، هو فوق الدستور والسلطات جميعا وله غلاف يحميه من منتفعين ومتسلقين وانتهازيين يسمى الحزب الحاكم، والذي يوظفه بديلا للسلطات الثلاث، فمنه يتم اختيار السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بقوائم معدة، وتفرض القائمة على الناخبين، لذلك فالنتيجة دائما 99.9 %، وهذا النموذج مطبق في الدول ذات النظام الجمهوري.
الثالث: مخصص لدول الجزيرة العربية، كونها تضم منطقة مهد الإسلام، ويجب على أنظمتها تنفيذ برامج اجتثاثية للإسلام على المدى الطويل، فهذه وجدوا أن لا حاجة للأشكال الديمقراطية فالمجتمعات فيها تتقبل الصيغة القبلية.
أما الرابع: فهو نظام خاص فريد وضع لاحتواء مصر، كونها الأهم لأتها الدولة القيادية في المنطقة، لذلك تدخلت أمريكا مبكرا لسلب الهيمنة عليها من بريطانيا، عندما وجدت ميولا تحررية لدى مجموعة من الضباط الذين ينتمي أغلبهم الى حركة الإخوان المسلمين، فتدخلت قبل استفحال الحالة وتتحول الى حركة إسلامية تشمل الأمة كلها، لذلك دعمت الضباط اللاإسلاميين (القوميين)، الذين تمكنوا سريعا من السيطرة.
كانت الفكرة هي حصر الطبقة السياسية الحاكمة بالعسكر، فهم من السهل توجيههم وضبط اتجاهاتهم من خلال الدورات التدريبية في الغرب، لذلك تم ترفيههم وتمييزهم عن باقي الشعب بالأعطيات (وطبقت هذه الفكرة في الجزائر أيضاً)، فتم قمع كل الأحزاب وأصبح الرئيس هو الزعيم بلا منافس، لكن عندما نمت طموحاته لتشمل الأمة تمت محاصرته وإفشاله من خلال شراء الضباط (الأحرار) المحيطين بالزعيم، والذين شكلوا علبة مجهزة حسب مواصفات الغرب يتم اختيار القيادات منها، وفي النتيجة لم تختلف المخرجات عما سبق.
من استعراض النماذج الأربعة، نلاحظ أن اختلافها عن بعضها شكلي، هو لغايات التظاهر بالتعددية فجميعها برغل وعدس، وحتى لو سمي عند بعض الأنظمة عدس وبرغل، فهو الطبخة المملة ذاتها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى