ما بين المصداقية وخدعة الأرقام!

قراءة في استطلاع رأي مركز الدراسات الاستراتيجية

ما بين المصداقية وخدعة الأرقام!
د كاظم عادل الغول

خرج علينا مركز الدراسات الاستراتيجية يوم الأحد 03/11/2019، بنتائج استطلاع رأي (نبض الشارع الأردني – 5)، في حقبة زمنية توسطت الإعلان عن “خطة تحفيز الاقتصاد الوطني والاستثمار” في 27/10/2019، وقبل يوم واحد من تقديم الوزراء استقالاتهم تمهيداً للتعديل الوزاري الرابع. ومن باب المسؤولية العلمية، والواجب الوطني، أقدم هذا النقد البناء لمنهجية ونتائج استطلاع الرأي المذكور، حيث تتجسد بعض الصدمات العلمية والمنهجية لهذا الاستطلاع فيما يلي:
أولاً: أخطاء الصف السادس الابتدائي:
ورد في الجدول رقم (1) في عنوان المحور الأخير للجدول عبارة (الوسط الحسابي %)، وتحت هذه العبارة وردت الأرقام التالية: (62/58/53/51/45/42)، على اعتبار أنها الوسط الحسابي لاستجابات أفراد العينة على (6) عبارات وفق مقياس خماسي. ألا يعلم أهل الخبرة والاختصاص، أن الوسط الحسابي لا يقاس بالنسب المئوية (%)، وهو ببساطة مجموع درجات أوزان الاستجابات في المقياس الخماسي، مقسوم على عددها، أي مقسوم على (5). بمعنى آخر، أن الوسط الحسابي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يزيد عن (5) صحيح. وهذه الكارثة العلمية المنهجية تكررت في معظم محاور الاستطلاع مع الأسف، وتحديداً في (8) محاور رئيسة، ظهرت في الأشكال (4)، و(5)، و(6)، و(7)، و(8)، و(9)، و(10)، والجدول رقم (1)، وعليه فمن المستحيل أن يكون هذا خطأ مطبعياً، أو سقط سهواً، بل إنه خطأ منهجي كارثي، يشير بجلاء إلى الضعف المنهجي والعلمي الكبير للمنهجية الاستطلاع العلمية، وبالتالي عدم مصداقية النتائج المنشورة، وعدم إمكانية تعميمها.
ثانياً: تمثيل عينة الاستطلاع للمجتمع الأردني، أين العينة الممثلة بعد استبعاد (69%) من أفرادها؟
اقتباس(1): “نفذت دائرة استطلاعات الرأي العام والمسوح الميدانية في مركز الدراسات الاستراتيجية… استطلاعها الخامس… خلال الفترة من 28-30/10/2019، على عينة ممثلة للمجتمع الأردني من المحافظات كافة”. انتهى اقتباس (1)
اقتباس (2): بالعودة إلى السؤال الأول للمستجيبين ضمن محور (خطة تحفيز الاقتصاد الوطني والاستثمار)، الذي نص على: “هل سمعت، قرأت، عرفت عن خطة تحفيز الاقتصاد الوطني…؟”. وفي الإجابة: “ظهر أن (31%) من المستجيبين فقط عرفوا بخطة تحفيز الاقتصاد الوطني، فيما أفاد (69%) بأنهم لم يعرفوا عنها”. انتهى اقتباس (2)
النسب المئوية المذكورة في اقتباس (2) تشير بشكل منهجي إلى أن عينة الاستطلاع غير ممثلة للمجتمع الأردني على الإطلاق، حيث تم استثناء (69%) تلقائياً من العينة الأصلية لعدم معرفتهم المطلقة عن الخطة، ولا يمكن الاعتماد على استجاباتهم في موضوع الاستطلاع، وبقي فقط أقل من ثلث العينة (31%) وهم الذين يعرفون عن الخطة ويمكنهم الاستجابة الموضوعية لأسئلة الاستطلاع. عليه، وبما لا يدع مجالاً للشك، فقدت العينة تمثيلها للمجتمع الأردني بفقدانها (69%) من أفرادها. وعليه – أيضاً – فقدت نتائج الاستطلاع مصداقيتها وموضوعيتها مباشرة، ولا يُعْتَّدُ بها، ولا قيمة علمية لها.
ثالثاً: خدعة الأرقام، أو لعبة الأرقام:
اقتباس (3): “يعتقد (43%) من المستجيبين بأن الحكومة جادة في تنفيذ خطة تحفيز الاقتصاد الوطني وتشجيع الاستثمار. ويعتقد في الوقت نفسه (44%) من المستجيبين بأن الحكومة ستكون قادرة على تنفيذ خطة تحفيز الاقتصاد الوطني”. انتهى اقتباس (3)
بالعودة إلى خدعة الأرقام، يظهر أن نحو نصف العينة (تقريباَ) متفائلون بجدية الحكومة وقدرتها على تنفيذ خطة تحفيز الاقتصاد الوطني. والحقيقة هي، أن هذا النصف من العينة، هو نصف مَنْ سمعوا، أو قرأوا، أو عرفوا بالخطة، وهم فقط (31%) من العينة الأصل. عليه، وبالعودة إلى خدعة الأرقام، تكون النسب الحقيقية كالتالي:
• “يعتقد (13.3%) من المستجيبين (من العينة الأصلية) بأن الحكومة جادة في تنفيذ خطة تحفيز الاقتصاد الوطني وتشجيع الاستثمار”، وليس (43%).
• “يعتقد (13.6) من المستجيبين (من العينة الأصلية) بأن الحكومة قادرة على تنفيذ خطة تحفيز الاقتصاد الوطني وتشجيع الاستثمار”، وليس (44%).
رابعاً: أبجديات في البحث العلمي الرصين:
ألا يعلم أهل الخبرة والاختصاص، أن من أبجديات البحث العلمي إبراز وتوضيح البيانات الأولية (أو الأساسية أو الديموغرافية) لعينة الاستطلاع؟ وأن إخفاء هذه المعلومات التي تعد ركناً أساساً لمصداقية وموضوعية وقوة منهجية العمل العلمي، تُحَّوِلْ الشكوك في عدم سلامة العمل العلمي إلى حقائق دامغة.
خامساً: ماذا عن الاستطلاعات والدراسات الأخرى؟
تعد النماذج السابقة من الأخطاء الجوهرية بحق البحث العلمي، خريطة طريق لمعظم الاستطلاعات والدراسات والبحوث المنشورة إعلامياً ومن عدة مصادر، من حيث البناء والتصميم لغاية الخلوص إلى نتائج وهمية واهية وموجهة، بعيدة كل البعد عن واقع نبض الشارع الأردني، وعما يحتاجه متخذ القرار. وهذه النماذج لا تقتصر على جهة بحثية معينة بذاتها، فهناك عدد لا بأس به من الجهات والمراكز البحثية العلمية التي تتغنى ليل نهار بنتائج دراساتها واستطلاعاتها على شاشات التلفزيون، وقعت في أخطاء منهجية لا تعد ولا تحصى، وأبسط تلك الأخطاء يُفْقِدْ النتائج مصداقيتها وإمكانية تعميمها على المجتمع الأردني.
سادساً: علاقة النهضة ببيوت الخبرة العلمية الوازنة:
من واجب بيوت الخبرة العلمية والمراكز البحثية المتناثرة في مؤسسات القطاع العام رفد ميزانية الدولة اقتصادياً من خلال استثمار مخرجات البحث العلمي الرصين، هذا بالإضافة إلى تزويد متخذ القرار بالإحصاءات والتقارير والبحوث والدراسات العلمية المنهجية الرصينة بشكل دوري ومستدام، فعماد النهضة هو التعرف على الواقع بجوانبه وخباياه وتفاصيله كافة، وخير ممثل للواقع بحيادية مطلقة؛ الدراسات والبحوث واستطلاعات الرأي العلمية المنهجية الرصينة، التي يفترض على متخذ القرار استثمارها في بناء وتصميم خططه واستراتيجياته وسياساته لنهضة الوطن، فماذا لو كانت مخرجات ونتائج أكبر بيوت الخبرة البحثية والعلمية العامة والخاصة مجرد أرقام وهمية موجهة ولا تمت للواقع ونبض الشارع الأردني بصلة؟ من المؤكد أن نتائج كل الخطط والاستراتيجيات والسياسات ستبوء بالفشل، ولنا في الواقع عشرات الأمثلة، لأن مدخلات تلك الخطط والاستراتيجيات والسياسات لا تتسم بالمصداقية، ولا بالموضوعية، ولا حتى بأدنى المعايير العلمية المنهجية، لهذا أصيب عدد كبير من متخذي القرار بالتخبط الذي عطل برمجية النهضة المنشودة والطموحات المرتفعة.
هذا غيض من فيض، وأُذكّر هنا بأن من أهم قيم بيوت الخبرة البحثية هي: الأمانة، المصداقية، الكفاءة، الشفافية، والرصانة العلمية.
والله من وراء القصد،،،،،،
د.كاظم عادل الغول
باحث وأكاديمي أردني
Kadhem_1977@yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى