ما بعد أزمة المُعلمين
شكّل إضراب المُعلمين حدثاً بارزاً ورئيسيًّا في تاريخ البلاد عامة والمشهد السياسيّ الديمقراطيّ في المملكة خاصة، وخلقت شكلاً جديداً للحراك البعيد كُلّ البُعدّ عن الإصلاح السياسيّ وهو الحِراك الاقتصاديّ.
الحِراك الاقتصاديّ هو الشكل الجديد لاحتجاجات الأردنيين الذين يشعرون بِغياب العدالة الاقتصاديّة التنمويّة، وأن السياسات التي اُتبعت في السنوات الأخيرة تخدم نُخب معينة ولا تتوزع فيها مكاسب التنميّة بشكلٍ عادل على الجميع، وأن هُناك خللاً واضحاً في توزيع الثروات وادى في النهاية إلى خلق هوة كبيرة بين طبقة غنيّة في المجتمع وتتمتع بثراء فاحش مع غالبية مسحوقة دخلها تحت خط الفقر المدّقع، فالعاملين بالقطاع العام الذين لا تتجاوز دخولهم الـ500 دينار يُشكّلون اكثر من 85 بالمئة من إجمالي الموظفين في القطاعين المدنيّ والعسكريّ.
الحُكومات لم تتعظ كثيراً بأحداث الرابع في شهر أيار من العام الماضيّ والتي شكّلت في اعتقادي الخاص البدايات الأولى للحراك الاقتصاديّ البعيد عن السياسة وتداعياتها، حينها كانت القوى النقابيّة مَدعومة بحركة جماهيريّة من مُختلف أنحاء المملكة ترفض بشدة مشروع قانون الضَريبة والذي تسبب في تغيير حُكومة الملقي واستبدالها بحكومة الرزاز التي أقرت القانون بتعديلات بسيطة استطاعت أن تُمرّره في مجلس النوّاب وتتجاوز رفض الشّارع وتداعيات ما بعد الرابع في وقتها.
إضراب المُعلمين هو الشكل الثاني المُتطوّر أو النسخة المُحدثة للحراك الاقتصاديّ الذي كان قد اشتعل في الدوار الرابع العام الماضي وهو واضح منذ بدايته في المطالب (علاوة الـ59 بالمائة)، ولم يتزحزح المعلمون قيد أنمُلة عن مطلبهم، وهذا ما يجعلنا نؤكد على أن الأوضاع الماليّة والأمن المعيشيّ للأردنيين ستكون على رأس أولويات المطالبات المُقبلة للأردنيين ليس فقط في القطاع العام وإنّما أيضا في القطاع الخاص.
انتهاء إضراب التعليم بعد أن دام شهر كاملاً لن يغلق الملف نهائيّاً، فالمعلمون ليسوا وحدهم من يطالبون العلاوة وتحسين أحوالهم المعيشيّة، فَكُلّ القطاعات بلا استثناء كانت تنظر لِحراك المعلمين وكيفية تعامل الدولة بأجهزتها المُختلفة مع هذا الحِراك.
أمر طبيعي أن تسود المطالب الماليّة حراك الأردنيين، فعمليات الإصلاح السياسيّ بقيت حبراً على ورق، وللأسف لم يحدث تطور في المشهد السياسيّ المحليّ في العقدين الأخيرين سوى حِراك الرابع وإضراب المعلمين، والاثنين حراكين مُستندين على مطالب اقتصاديّة بَحتة، وهذا يقودنا للأسف إلى الشكل الجديد لهوية الأردنيين في الإصلاح المُستند أساسا على غياب العدالة الاقتصاديّة وسوء توزيع الثروات ومكتسبات التنميّة، فالأردنيين بعد سنوات عديدة من سياسات الاِنكماش التي نفذتها الحُكومات المتعاقبة كانت تُشكّل اعتداءً مُباشراً على جيوبه وإيرادات القطاع الخاص من جهة أخرى مقابل استقرار الخزينة وتوفير مخصصات لها لتلبية الاحتياجات التمويليّة المُتزايدة لنفقات الموازنة، والنتيجة تَراجع مداخيل الإفراد وانخفاض النشاط الاقتصاديّ واستمرار ارتفاع مُعدّلات التضخم وثبات الدخل الشهريّ.
الجامع المشترك لِمُظاهرات الرابع العام الماضي ضد قانون الضَريبة وإضراب المعلمين اليوم هو أن الحكومتين حكومة الملقي والرزاز رفضتا التنازل في بداية الأحداث وأصرتا على موقفهما، مع فارق أن قانون الضريبة أُقرّ بعد حِوارات أوسع وتعديلات نسبيّة من الحُكومة الحالية، في حين أن المعلمين حصلوا على كُلّ ما يريدون بعد شهر كامل من الإضراب.
إضراب المعلمين ومن قبله أحداث الرابع العام الماضي خرج منها المراقب بنتائج مُهمة تستحق الدراسة والتقييم وهي ما يلي:
1. غياب الخطاب السياسيّ والقضية المركزيّة في السياسة العامة المحليّة افرغ الأردنيين من هويتهم السياسيّة وجعل المطالب الخدميّة تحتل شغلهم الشاغل في أحاديثهم وحركاتهم، لدرجة انهم لم يعودوا يولون الجانب السياسيّ أيّة أهمية.
2. اكثر من ثلاثة عقود على تنفيذ الحُكومات الأردنيّة لبرامج التصحيح الاقتصاديّ مع صندوق النقد الدوليّ، وجميعها بلا استثناء لم تحقق النتائج المرجوة في النهوض بالأمن المعيشيّ للأردنيين، بالعكس كان لها تداعيات معيشيّة سلبيّة على غالبية أفراد المجتمع.
3. أن الحكومة لا تمتلك إدارة أزمات حقيقيّة، وهناك غياب كامل للموقف الحكومي الموحّد مصحوبا بغياب خطط الطوارئ لمواجهة أي تحدّيات أو مشاكل مُستجدة أو طارئة.
4. تباين الموقف الرسميّ في مواجهة قضية المعلمين، وتكرار مشهد الانقسام في المواقف والآراء مقابل موقف موحّد من الطرف الأخر.
5. تداعيات مالية خطيرة ستشهدها الخزينة في المرحلة المقبلة قد يتمثل في مطالب ماليّة جديدة من قطاعات مختلفة تُطالب هي الأخرى بتحسين أحوالها المعيشيّة، وهو ما يعرض الوضع الماليّ للخطر ويزيد ضبابية المشهد على الاقتصاد الوطنيّ وعلاقاته مع المانحين والمؤسسات الدوليّة وقد يؤدي إلى تراجع تصنيفه الائتمانيّ إضافة إلى ضغوطات جديدة على بيئة الأعمال والاستثمار في المملكة.
6. نعود للمربع الأول وهو الإصلاح السياسيّ الحقيقيّ الذي يوحد الأردنيين ويزيد من مشاركتهم السياسيّة وتحملهم للمسؤولية في رسم السياسات المختلفة قد يكون الحل الأنجع لتوحيد المجتمع لمواجهة التحدّيات السياسيّة الخارجيّة التي تُهدد المملكة.