ليلة قلق…

ليلة قلق…

جمال الدويري
هل أصبحنا شعبا مِخوافاً؟
…ومرت #ليلة الأمس, ما زارني بها النوم غمضة عين, ولا حتى بعد صلاة #الفجر, ولا بعد صحوة #العصافير, ولا بعد أن أعلن تاجر الخردة وصوله الى الحارة, بصوت مسجل إعلانه عن قائمة المشتريات التي تهمه, وبقيت محتارا محتاسا, وبلا وجع أو جوع, أو همّ محدد, وكما يقول محمد عبده: أتقلب, على جمر الغضا.
قلق على قلق, وحسابات وتفكّر وأخماس بأسداس, هوت بسكينَتي, وأطاحت باتزاني وسلمي الداخلي, حتى كدت أعتقد انها الساعة لا محالة.
مقدمات هذه الحالة الفريدة, كانت سهرة عائلية, ضمت فيما ضمت, ثلاث من الصبايا بين الصف الثامن, وسنة أولى كلية متوسطة متخصصة, النجيبات النشيطات, من الأوائل في التعليم والأدب, دخلن معي بحوار لم أتوقعه, نسيت الآن سببه المباشر, وربما كان سؤالي عن رضا الوسطى عن تقدمتها بالثانوية العامة الذي انتهى للتو, وجوابها الذي فاجأني, مع علمي بتفوقها, ومنافستها الدائمة على أقصى العلامات والتقدير.
قالت باختصار: الحمد لله.
لم يكفيني هذا الجواب, فحاولت البحبشة, وسبر غور الانطباع العام لطلبتنا, وما يشكون منه, فوجدت أن كل شيء في مجال التعليم والتربية لدينا, هو محط احتجاج وتظلّم لهم.
الصفوف المكتظة, انسياب الانضباط من المعلمين والمعلمات, وتسرب دقائق الحصة بين شغب وهزل وأسئلة خارج السياق, وتوجيه المدرسين لشراء بطاقات التقوية, الى المناهج المتحركة التي لا ترسو على بر, أجواء الامتحانات الدرامية المخيفة, قبول الجامعات وأسسها, والخوف من عدم تحصيل القبول, او العجز عن دفع جزية التعليم التجاري الخاص, فوق القدرات البشرية وإمكانيات معظم العائلات الأردنية ذات الأولاد, وتطول القائمة, حتى تصل للخوف الشخصي من الجريمة من وإلى المدرسة والكلية والجامعة, لا بل وفي رحاب هذه المعاهد والمؤسسات (التطبيقية مثلا).
كان هذا غيضا من فيض, السلبيات التي أجمعت عليها الطالبات الثلاث, مع اختلاف الأعمار والفكر, وقبل أن أحاول التوضيح والتسبيب, فقد زادت طالبة التوجيهي من الثلاثي: حتى لغتنا العربية, لا نتقنها, ورغم أنني من القارئات خارج المنهاج, وممن لديهن مخزون لغوي لا بأس به, الا أنني أجد صعوبة بالتعبير في موضوع ما بالفصحى, مهما سهلت فكرته.
إعتراف خطير, وفضفضة لا تبشر بخير, للقادم من السنين والأجيال, ومستقبل التربية والتعليم بشكل عام. وقد تدخلت هنا, زوجتي مدرسة اللغة العربية لربع قرن تقريبا, مستهجنة هذا الوضع والحال, ومؤكدة أن هذا الوضع ليس عميما في كل المدارس. وقد أنزع لموافقتها على ذلك, إلا انني مع ما ذهبت اليه الطالبة النجيبة, من وجود هذا الكم من المتناقضات في نظامنا التربوي والتعليمي, بل وأزيد, أن مدارسنا ومعاهدنا التعليمية العليا, تعاني بقوة, وتنحدر بسرعة, بالنظرية والتطبيق, بما قد يخلق مشاكل كارثية بالمخرجات, والقيمة المضافة للشهادات والخريجين, والتأهيل برمته لسوق العمل والحياة العامة.
تضيف النجيبات الثلاث, في سياق صريح لجلد الذات, لذكر أمثلة لجحود ولامبالاة يتصف بها غالبية الطلاب والطالبات, ونشوز واضح بين أهداف التربية والتعليم والغرفة الصفية, وما يقومون بها من أداء ومسخرة, وخروج على حدود اللياقة واللباقة, المفترضة بطلاب علم وثقافة.
يطول هذا الحوار الى ما بعد منتصف الليل, وعلى وتيرة واحدة, ملخصه الشكوى, ونهاية مطافه, أسئلة على أسئلة صعبة الإجابة على إطلاقها, ومع كل النية الصادقة تجاه أصحاب الأمر والشور والتخطيط للتربية والتعليم في هذا الوطن العظيم, وواضعي استراتيجيتها.
لم تغفل الطالبات الثلاث, الخوف الحقيقي الذي يعتمل في دواخلهن, من انتشار الجريمة المجتمعية, لأسباب وبلا أسباب, مثلما الخشية مما يحدث في كيان الاسرة الأردنية, من عنوسة وعزوف عن الزواج, الى ارتفاع نسبة الطلاق المبكر قبل وبعد الزواج, الذي له في وضعنا الاقتصادي المتردي, والبطالة وسوق العمل شبه الخالي من الفرص والامكانيات, أسبابا ومبررات إضافية.
أصابني الإرهاق والتشتت, وتملكني شعور من الشفقة على هذا الجيل, وآويت الى فراشي متعبا ثقيل الحمل والهم, وبقيت شاخصا بفضاء منامتي دون حتى أدنى اعتقاد انني قد أباغت السهاد ولو تعبا, بغمضة عين او سهو عن الصحو والقلق, وكيف يكون هذا, وأنا المتابع والعارف بالأخطاء الجسيمة, وربما سوء النوايا, في بعض التفاصيل, ممن يضع استراتيجيات التعليم, ويبدع المناهج, ويعلب النظريات, ويستورد المعلب منها, الذي لا يراعي لنا خصوصية او عقيدة او موروث.
وأسوأ وأفضع الكوارث, أن يكون حقل التربية والتعليم, ودروسه المتراكمة, مختبرا للتجارب شبه السنوية, حتى فقد الطلبة وأهلهم, الثقة بكل شيئ, وباتوا يعلنون النفير العام, كل عام دراسي, وقبل الامتحانات وبعدها, حتى صارت المعارك متوالية مستدامة, لا استراحة منها, ولا حتى بعد الوصول الى ديوان الخدمة المدنية بعد التحصل على كرتونة الجامعة أو الكلية.
وما زال هناك الكثير للقول والاحتجاج, ولكنني أنتهي وأنهي عند هذا الحد, واتقلب على جمر الغضا, وأطلب النجاة والعفو والعافية, لفلذات أكبادنا, المسكونين بالخوف والفزع, من المجهول من الغد, وأسأل نفسي وذوي الاختصاص والقرار, أي وطن نتغنى به, ونؤكد الاستعداد للدفاع عنه والتضحية من أجله, هذا الذي لا يقدم لشبابه وأجيال مستقبله, الا الخوف والإحباط والقلق؟ ولا يستطيع حتى وعدهم بمتحور أفضل. واللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى