
قريتنا المنسية !
على كتفيّ الوادي نمت قريتنا ، كعشبة بريّة شقّت رمضائها ذات هجير ، بيوت طينية متلاصقة . دروب موحلة . وزقاق يفضي إلى زقاق . الناس طيّبون ، ومتعبون . يرتشفون كأس الإيّام حتى الثمالة ، لا يعترضون على شيء ، واعتراضهم الوحيد رنّة أسى في مقل العيون ، وتمتمات هامسة ، لا أدري ما هي بالضبط ، على الأرجح بعض تعاويذ حفظوها من بقايا الكتاتيب ، أو سمعوها من جداتهم الراحلات . الرجال هنا يعرفون بعضهم ، يجتمعون كل مساء ، يفترشون الأرض ، وعادة ما يبدأون نقاشا محتدما حول زواج أو طلاق ، وربما حول سفر إلى مدينة بعيدة ، وكما اجتمعوا خلسة ينفضوّن خلسة ، بلا مبالاة ، ودون موعد محدد لنقاش قادم .النساء يتمترسن خلف الكوى المفتوحة ، يرقبن كل شيء ، ويعرفن كل شيء ، ولا يقلن شيئا على الإطلاق . فالصمت عمود البيت ، وضمان عش الزوجيّة !!
الدهشة في قريتنا المنسيّة تغلف كل شيء : الفقر ، والمرض ، والجهل . تعقد الألسن ، وتكسر الخاطر ، وتدجّن الخيال . دهشة تمتد من المختار حتى القادم الجديد .
دهشتنا غير ، وسرّها أن لا غموض فيها ، بسيطة ، وعارية تماما ، وموجعة . تفاصيلها كاملة ، ودقيقة ، لكنها عصيّة على النفسير أو التغيير .
استقرّ القادم الجديد في الغرفة المجاورة . أثار قلقي ، ومع دهشتي المزمنة أصبت بحالة أرق . تحوّل الأرق إلى خوف ، والخوف إلى هلع ، والهلع إلى هذيان .
صرت محطّ صبايا القرية ، هكذا كان ، أو هكذا خيّل إليّ ، كل ليلة يسهرن قرب فراشي ، فراشات تطير ، غزلان فلوات ، ذئاب تعوي ، ريح تعول ، نجوم تعاند السماء ، شلال تاريخ . لكل واحدة ألف حكاية ، ولي أنا حكاية واحدة : عمّان .
ألف حكاية وحكاية ؛ هن صبايا القرية ومجنونها !!