عودة على ذي بدء / موسى العدوان

عودة على ذي بدء
الإصلاح بين مهاتير الماليزي ومهاتير الأردني . . !

قبل سبع سنوات كتبت مقالا قارنت به بين مهاتير الماليزي ومهاتير الأردني ونشرته على عدد من المواقع الإلكترونية. وبعد أن عاد مهاتير هذه الأيام ليقود قطار بلده، ويضعه على السكة الصحيحة عندما حرفه الفاسدون عن مساره المرسوم، رأيت أن أذكّر القراء الكرام بما كتبت في ذلك الوقت، دون أي تعديل أو إضافة، وهو كالتالي :

الإصلاح بين مهاتير الماليزي ومهاتير الأردني . . !
في مسيرة الأمم يبرز عادة رجال عظماء يصنعون تاريخا مشرّفا ، ويطبعون بصمات واضحة على جبين الوطن في مجالات مختلفة ، تعيش ذكراها بين الناس فيتناقلونها جيلا بعد جيل . ولكي أدلل على ما أشرت إليه دعونا نأخذ نموذجا لشخصيتين إحداهما عالمية والثانية محلية ، ونجري مقارنة حيادية لما قدم كل منهما من خدمات جليلة لبلده ، لعل في ذلك عبرة نقتدي بها ونطبّق نهجها في خدمة وطننا العزيز

الشخصية الأولى التي أريد الحديث عنها ، تتمثل في شخص الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق ، الذي ولد عام 1925 في ماليزيا ودرس الطب في كلية الملك إدوارد السابع في سنغافورة ، ثم درس الشؤون الدولية في جامعة هارفرد بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1967 .

عمل الدكتور مهاتير في بداية حياته العملية بعيادته الخاصة في ماليزيا ، والتي كان يقدم من خلالها العلاج مجانا للفقراء ، ثم عمل ضابطا في سلاح الخدمات الطبية الماليزية ، وتقلد مناصب وزارية عديدة . وفي عام 1981 تولى مهاتير رئاسة الوزراء في بلده ، حيث كانت ماليزيا الواقعة في جنوب شرق آسيا دولة زراعية تعتمد على تصدير المطاط والسلع البسيطة . فرسم مهاتير خريطة طريق لمستقبل ماليزيا حدد فيها الأولويات والأهداف والنتائج ، التي يجب الوصول إليها خلال عشر سنوات ثم لعشرين سنة قادمة ، من خلال رؤيته الثاقبة وحكمته الراسخة .

على ضوء تلك الخريطة استطاع مهاتير أن يغير وجه ماليزيا المألوف ، وأن ينهض بها تنمويا ، ويقلص حجم البطالة ، ويرفع مستوى دخل الفرد من 300 دولار إلى 5000 دولار سنويا . واستهدفت خططه الاقتصادية في مجملها ، الانتقال بماليزيا من دولة ذات اقتصاد محدود إلى دولة صناعية متقدمة في عام 2020 . فتحققت التنمية الشاملة خلال فترة وجوده إذ وصلت 4.5 % ، وعمّ الرخاء بعد أزمات ومؤامرات داخلية وخارجية ، كادت أن تعصف بالإنجازات التي تم تحقيقها . وبالرغم من ذلك تحولت الأحلام في عهده إلى حقائق يمكن مشاهدتها على أرض الواقع .

لقد كشف مهاتير خلال الأزمات المالية والاقتصادية التي عانت منها ماليزيا ، عن العديد من الأفكار الخلاقة التي رسخت فلسفته الفكرية في منهاج قويم سار عليه ، وخرج منتصرا في الحرب التي شنها على بلاده أنصار العولمة . كان مهاتير ولا زال يعتقد بأن فتح الأسواق بشكل مباشر ، يخدم الدول الغنية فقط ويعرّض الدول الفقيرة لمخاطر وخسائر كبيرة . فتطور الأسواق العالمية ساهم في توسيع الهوة الموجودة أساسا بين الدول المتقدمة والدول النامية .

أما على المستوى السياسي فقد بدأ مهاتير عملية الإصلاح من داخل بيته ، أي من حزب ‘ منظمة الملايو الوطنية المتحدة ‘ الذي يتزعمه ، وطالب أعضاء حزبه بالنأي بأنفسهم عن الفساد قائلا : ‘ إن استغلال الأموال في العمل السياسي وشراء الأصوات الانتخابية سيدمر الحزب ‘ . واعترف بأن الفساد أصبح جزءا من الثقافة السياسية في ماليزيا ، وبناء عليه ناشد أعضاء حزبه مساعدته في القضاء على ذلك الوباء

لقد دعا مهاتير المسلمين في جميع أنحاء العالم للعودة إلى تعاليم الإسلام الحقيقية ، والتحلي بقيم السلام والأخوة والتسامح ونبذ العنف والكراهية . وبيّن بأن الإسلام لا يشكل عائقا أمام التنمية بل يدعو إلى العلم والعمل المتقن . وقبل بداية الألفية الثانية صرح قائلا : ‘ إن الأمة الإسلامية ما زالت تعيش في سبات عميق ، وينبغي أن نعترف لأنفسنا قبل غيرنا ، بأن المجتمعات الأخرى قد سبقتنا ببضعة قرون . ومن ثم فإن المسلمين مطالبون أكثر من أي وقت مضى ، أن يدركوا حقيقة الوضع الذي هم فيه على ضوء ما استحدثته المجتمعات البشرية المتطورة ، من أفكار تجديدية وتقنيات حديثة ما زالت الأمة غير مهيأة لاستيعابها وعاجزة تماما عن التعامل معها ‘ .

في عام 2003 قرر الزعيم الماليزي الانسحاب من السلطة واعتزال الحياة السياسية وهو في قمة مجده ، بعد أن نقل البلاد إلى مرحلة متقدمة من النهضة الاقتصادية . وأثبت للعالم أنه بالتخطيط السليم والإخلاص الحقيقي للوطن ، يمكن أن تنهض الأمة من تخلفها اعتمادا على إرادتها ، وعلى التعاون الوثيق بين مختلف أطياف شعبها . وعندما سئل قبل شهر واحد من تقاعده عن كيفية تجنب ماليزيا الأزمة الاقتصادية في عام 1997 والتي أدت إلى انهيار اقتصاديات دول آسيوية أخرى ، أجاب بسخرية : ‘ لا تأخذوا بنصيحة صندوق النقد الدولي ‘.

مهاتير محمد صاحب التجربة الوطنية الماليزية الخالصة ، والذي استطاع خلال فترة رئاسته للوزراء التي استمرت اثنان وعشرين عاما ، الوصول بوطنه إلى نهضة شاملة وتخلى عن السلطة بإرادته ، أن يثبت للعالم بأن الإصلاح ليس ‘ بمعجزة ‘ ، خاصة إذا توافرت له نوايا حقيقية وأفكار عملية قابلة للتطبيق .

إن إهمية تجربة مهاتير تكمن في أنه لم يكتف بوضع أفكار نظرية مجردة ، بل ترجمها فعليا على شكل سياسات قابلة للتنفيذ ، حولت ماليزيا إلى نمر اقتصادي يعيش على تصدير التكنولوجيا ، ويجني من ورائها ما يصل إلى 59 مليار دولار سنويا ، ويحقق فائضا في ميزانه التجاري بما قيمته 25 مليار دولار سنويا ، ويصل دخله القومي إلى 215 مليار دولار . إن هذه التجربة الماليزية الرائدة في النهضة والتطور الاقتصادي ، تستحق منا التوقف أمامها طويلا للتأمل والتحليل ، ومحاولة الاستفادة منها في بناء اقتصادنا الوطني .

لقد أصبح الفكر التنموي للزعيم الماليزي مهاتير محمد مثلا يحتذي به العديد من رجال السياسة والاقتصاد في العالم . ومهاتير رجل على درجة عالية من الثقافة ، يعطي دروسا في التاريخ والدين والإنسانية والأخلاق الحميدة ، وهو مدافع قوي عن الحقوق العربية والإسلامية . ولا شك بأنه يعد من أعظم القادة السياسيين والاقتصاديين في هذا العصر .

أما الشخصية المحلية التي أود أن أضعها في كفة المقارنة مع مهاتير الماليزي لكي نتعرف على ما قدمته لوطنها من خدمات هامة ، فهي شخصية مهاتير الأردني . وأعتقد بأنني لن أفاجئ القارئ الكريم عندما أعلن الحقيقة المؤسفة بالقول أن المقارنة غير ممكنة ، لأن مهاتير الأردني ليس له وجود على الساحة الأردنية . فالمواصفات المطلوبة للقيادي الناجح لا تنطبق على أي من المسؤولين الحاليين أو السابقين . لقد أعيتنا الحيلة في العثور على مهاتير الأردني بين صفوف الشعب . . ولست متفائلا بالعثور عليه في المستقبل المنظور . . إلاّ إذا حدثت معجزة تقلب موازين الاختيار السائدة في الوقت الحاضر . . !

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى