سواليف
قدمت دراسة كبرى في علم وراثة الذكاء البشري للعلماء أعظم رؤيةً حتى الآن لفهم الجينات التي تُشكِّل أساس مهاراتنا المعرفية، ولكنها في الوقت ذاته تفتح بابا مثيرا للقلق حول احتمال تدخل الإنسان في عملية اختيار قدرات الأجنة العقلية.
وكشفت الدراسة، التي أُجرِيَت على 60 ألف بالغ و20 ألف طفل، عن 40 جين جديد تلعب دوراً في الذكاء، ما يُمثِّل نقلةً تجعل عدد الجينات المعروفة بارتباطها بمعدل الذكاء يصل إلى 52 جينا، حسبما جاء في تقريرٍ لصحيفة الغارديان البريطانية.
ولايمكن أن نقيس الذكاء بشكل كمي طبقًا لعدد الخلايا العصبية الموجودة في المخ مثلاً، لكن تبقى اختبارات مقياس الذكاء IQ التي وضعها <ألفريد بينيه> عام 1904، هي الأداة الأكثر شيوعًا، وفقا لموقع “ساينتفك أمريكان” بالعربي.
فإذا كان ذكاء الإنسان يتأرجح بين 46 و160 على مؤشر القياس النفسي، فإننا نتحدث عن مستويات عالية من الذكاء بدءًا من 130 وفقًا للمعيار العالمي ( هناك دول مثل فرنسا تعتبر الإنسان عبقريًّا إذا ما بلغت درجاته 125). وبناء على نتائج تلك الاختبارات، فإن هناك طفلًا واحدًا فقط لكل 100 ألف يبلغ مستوى ذكائه على الاختبار النفسي 160.
وقالت البروفيسورة دانييل بوستهوما، عالمة الوراثة الإحصائية في جامعة أمستردام الحرة، التي أجرت الدراسة التي نُشِرَت في مجلة Nature Genetics العلمية: “نُريد أن نفهم كيف يعمل الدماغ وأن نعرف ما هي الأسس البيولوجية للذكاء”.
هل الوراثة هي العامل الوحيد المؤدي للذكاء؟
وأظهرت أعمالٌ سابقة أُجرِيَت على التوائم أنَّ الجينات تُمثِّل حوالي نصف الفروق التي تظهر في درجات الذكاء عبر السُكَّان، في حين البقية تُشكِّلها عواملٌ مثل ظروف الرحم والتغذية والتلوث والبيئة الاجتماعية للشخص.
وقالت بوستهوما: “الجينات لا تُحدِّد كل شيءٍ يتعلَّق بالذكاء. هناك العديد من العوامل الأخرى التي تُؤثِّر في مدى نجاح شخصٍ ما في اختبار الذكاء”.
ويُعتقد أنَّ مئات، إن لم يكن آلاف، الجينات تلعب دوراً في الذكاء البشري، إلا أنَّ معظمها لا يساهم إلا بمقدارٍ ضئيلٍ في براعة الشخص المعرفية. ولا يزال يتعيَّن التوصل إلى أغلبية التأثير الكبير للجينات، علاوة على تلك الجينات التي ليس لها تأثيرٌ كبير.
ووجد العلماء أنَّه إذا ما أخذنا كل ذلك في الاعتبار، فإنَّ جميع الجينات التي حدَّدَتها الدراسة الأخيرة لا تُفسِّر سوى حوالي 5٪ من التباين في معدلات الذكاء بين الناس.
بالتعاون مع فريقٍ دولي من العلماء، بحثت بوستهوما عن علاماتٍ وراثيةٍ مُرتَبِطَةٍ بالذكاء في 13 مجموعة مختلفة من الأشخاص المنحدرين من أصل أوروبي. ومن بين الجينات الـ52 التي وجدوها، كان هناك 40 جينا جديدا معظمهم في الدماغ. وترتبط نفس الجينات أيضاً بالوصول إلى مستوى تعليمي أفضل، ومحيط رأس أكبر عند الولادة، والعيش لفترةٍ أطول، وترتبط كذلك بمرض التوحد.
وفي حين أنَّ العلماء لديهم فكرة عما تفعله الكثير من الجينات الجديدة، قالت بوستهوما إنَّ الخطوة التالية هي منع وظيفتهم في الفئران لمعرفة تأثير كل جين على وظيفة الدماغ. ويُمكِن القيام بذلك مع الخلايا العصبية البشرية المصنوعة من خلايا الجلد في المُختَبَر. وفي الوقت المناسب، إذا تمكََّن الباحثون من بناءِ صورةٍ مُفصَّلةٍ للجينات الوراثية المسؤولة عن الذكاء، فقد تُساعدهم في فهم الخطأ الذي يحدث في الظروف التي تؤدي إلى حدوث الإعاقة الذهنية.
تطور خطير
ولكن دائماً ما تثير دراسة علم وراثة معدل الذكاء أسئلةً خطيرة حول كيفية استخدام المعلومات. فهل يمكن اختيار الأجنة البشرية وفقاً لقوة الدماغ في المستقبل؟ وهل يستطيع العلماء صنع أدوية لتحسين الذكاء البشري؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن للأغنياء فقط الحصول على هذه التكنولوجيا القوية؟
قالت بوستهوما: “هناك دائماً إشكالية تصميم الأجنة الاصطناعية (أجنة معدلة وراثياًً) وكيف يُمكننا استخدام هذه المعرفة لتحسين الذكاء. وهذه أسئلة صحيحة، ولكنها بعيدة جداً عن مكان وجودنا الآن. فبالتأكيد لن تكون قادراً على تصميم طفلٍ على أساس المعرفة الحالية”.
لا تزال هذه الاستخدامات في الأفق. فبالفعل يجري فحص الأخطاء الوراثية في أجنة التلقيح الاصطناعي. ومع دراساتٍ أكبر، يتوقَّع العلماء العثور على مزيدٍ من الجينات التي تُسهم في الذكاء البشري.
وفي نهاية المطاف، قد يصل العمل إلى نقطةٍ يُمكن عندها استخدام المحتوى الوراثي (الجينوم) لأجنة التلقيح الصناعي لترتيبها وفقاً لقدراتها الفكرية، حتى لو كان الفارق صغيراً جداً بحيث لا يكون ذا أهمية تُذكر.
وقال ستيوارت ريتشي الباحث في الشيخوخة المعرفية في جامعة إدنبره ومؤلف كتاب “Intelligence: All that Matters”: “يمكنك أن تتخيَّل أنَّه بمجرد أن يصبح من الممكن تفسير قدر كبير من التباين في الذكاء، سيبدأ الناس في القيام بذلك”.
وأضاف أنَّه لا ينبغي استبعاد احتمال تعاطي أدوية لزيادة معدل الذكاء. فالعالم مليءٌ بالسكان من كبار السن وانخفاض وظيفة الإدراك في سن الشيخوخة، ما يجعل المسنين أكثر عرضةً للخطأ والحوادث، وكذلك أكثر عرضةً للمحتالين. وقال: “إذا كنَّا نعرف ما تقوم به الجينات، ويمكننا تطوير العلاجات، بعد ذلك سنكون قادرين على تأخير الشيخوخة المعرفية إلى حدٍ ما. ومع مرور الوقت، يُمكن أن نرى تنامياً في اللامساواة”.
وقال بوستهوما: “وهناك احتمال آخر على المدى الطويل، ربما هو استخدام المعلومات الجينية لتحديد الطريقة التي يُدرَّس بها للطلاب، كل طالبٍ على حدة”. وأضافت: “ربما يمكننا أن نقول يوماً ما أنه بناء على التركيب الجيني الخاص بك، قد يكون من الأسهل بالنسبة لك استخدام هذه الاستراتيجية بدلاً من غيرها لتعلم هذه المهمة. ولكن هذا لا يزال بعيداً للغاية. ولا أعتقد أن ما هو مكتوب في جيناتنا يُحدِّد حياتنا”.