كلام في يوم السلام…

#كلام في #يوم_السلام

جمال الدويري
كثرت الأيام العالمية وتكاثرت, مثل فطر الرعد, حتى ما عاد احد, مثلي, يحفل بها او يحتفل, او حتى يعرف بحلولها, وجاء (يوم السلام العالمي), كعشرات او مئات من تلك المناسبات التي تأتي وترحل دونما اهتمام يذكر, وأنا شخصيا, لم أكن ارغب بذكر هذا المسمى الفضفاض المنفصم, ولا أطلق بمناسبته حماما أبيضا ولا أسرق زيتونة مباركة ابناءها الرضّع, المتفتحين للتو, فأكون أول محتفل بالسلام, بقتل السلام, واغتيال زغب فروعه.
ولكنني عجزت عن الصمت, وأنا أرصد النفاق السلامي العميق والحاد, الذي يكتنف الأرض من قطبها الى قطبها, وأسجل هذا #الانفصام الرهيب بين قول #البشر وفعلهم, وبين #سلام #خطابات الدول وممارساتها, بين الاحتفالات ومنمق الحديث, وبين رعد المدافع وأزيز الطائرات, وبين الجوع والظلم والتشريد والطغيان, وبين آلاف وملايين قتلى وجرحى الحروب, وتجارة الموت والسلاح وأكداس الدمار وعفن المقابر الجماعية, التي عجزت كل غربان الأرض, عن مواراة سوءتها وطمر حقيقة وجودها.
نعم, حضر يوم السلام العالمي, وغاب السلام, حضر المحتفون وغاب المُحتفى به, حضرت الأمم المتحدة وغابت الأمم الإنسانية, حضرت سفراء النوايا الحسنة, وغابت النوايا الحسنة, حضر كل شيء وغاب ما نصبو اليه من الأشياء.
كثرت منابر السلام, واحتفالات وأهازيج السلام, والكذب في السلام وعن السلام, وارتجت أرجاء المعمورة بفعل أدوات قتلة السلام وزعمائها, وسدنة الحروب والمروجين لها والمهددين بها.
وما لفت انتباهي هذه المرة, اكثر من ذي قبل, وأنا اسمع وأرى المبالغة بحفاوة الضيف الذي ما عاد يصدق كرمنا نحوه, والذي ارتحل قبل ثلاثة ايام وثلث من قدومه, ولم يشرب حتى فنجانه, وهو القارئ لعيون الكذبة والمرائين, وصناع الكوارث الآدمية, دون خجل او وجل, وهم يهرفون باسمه ويرفعون شعاراته.
هرمنا وقرفنا وأيم الحق, أن يكون العرب, أكثر المتحدثين عن السلام, والمحتفين بعيده العالمي, وهم ليسوا بوارد خرقه او حرقه او الانقضاض عليه, باساطيلهم وجيوشهم الجرارة واسلحتهم الخارقة للفيزياء وقوانين الطبيعة, ومسيراتهم ذات العالمية ماركة (صُنع في بلادنا), نموت ونفنى ونُحتل ونُسام أسوأ العذاب ونحن نغني: لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي, وليس لدينا الا استراتيجية السلام, ومئات المعاهدات والاتفاقيات الاستسلامية المقززة, التي نحتفي بذكرى توقيعها من جانب واحد وباتجاه واحد, حتى تطاولنا على مناهجنا ونفوس أطفالنا, فزيفناها, وحذفنا منها ما يشير فقط, للانتصار للكرامة والأرض والوطن, لنزرع بين محيطنا وخليجنا, جيلا مسلاما مستسلما لا يعرف عن نصرة الأوطان والحقوق الا أهازيجها, وزيتون سلامها وحمامه.
ماذا يحصل ايها الأكارم في وطننا؟
وما الذي وراء هدم قدواتنا وذكرى أبطالنا, وهذا الهرف السلاميّ المزيف, يغزو اوطاننا, ويزيف وعي ولا وعي أطفالنا وشبابنا ومؤسساتنا العامة والخاصة, ومئات جمعيات الثقافة والسلام, ومنتديات الردح للزيتون والحمام, حتى اعتقدت للحظة, اننا ربما نكون بصدد, استنفار قدراتنا الصاروخية النووية العابرة للمسرحيات والوهم, نوجهها الى صدور الأعداء الذين ينكلون بأطفالنا وأهلنا بين جبال النبي شعيب في اليمن السعيد وسلسلة جبال اطلس في مغارب حدود الأمة, لقد احتلني الوهم, واستحوذ عليّ أمل كاذب بأننا قاب يومين او أقل, من استراداد الحقوق, وصنع يرموك جديد وقادسية ثانية, وتحرير كل فلسطين عربية اسيرة محتلة.
وأستفيق من الحلم الكابوس, لأجد في رسائلي عروضا لشهادات وتقادير منمقة مزخرفة تبهج الناظرين, من آكاديميات ومعاهد ومؤسسات تشع سلاما وتقطر خطبا رنانة عن الثقافة والسلام, عن التنمية والسلام, عن الحداثة والتنوير والسلام, عن الصحافة والأدب والعلم والسلام, فأفيق من عمق غيابي, كمن يسير خلف ضبع طقه الحنت.
تحيتنا ومفتاح علاقاتنا مع أهل الأرض: السلام عليكم, في حين يصموننا بالارهاب, ويدعوننا صباح مساء للنكوص الى الاسلام غير المتطرف, والكف عن استعمار العالم وإطلاق سراح الاحتباس الحراري, ورتق الأوزون الذي خرقنا.
أفيدوني بربكم, لماذا, ولصالح من هذا الضخ الاعلامي, والتزوير الثقافي لوعينا وإدراكنا, المزور لحقيقة أننا شعوب لا تقلي بيضة ولا تسلقها, وأمة باتت عبئا على ذاتها وتاريخها, يجري تغريب ثقافتها وأجيال مستقبلها.
هو كلام في السلام, تذبحه المدافع, وتدمر معانيه أمم امتهنت القتل والارهاب, واستعباد البشر واسترقاق من يدعون هبّتهم مساعدتهم وتمدينهم.
عيد السلام العالمي, كذب وتدليس, لم يعد اكثر من مادة للتندر والسخرية, في وقت تُدك به حصون السلام, ويدقون به في الكون عطر منشم. ارحمونا هداكم الله من الشياطين في أثواب القديسين, ودعوا عنكم بربكم الدفع وشراء غباء المحتفين منا بالسلام ويومه وحمامه وزيتونه, الى ان نمسك حقا بتلابيب السلام الحقيقي, ويشبع أطفال العرب خبزا وكرامة وعلما وصحة حقيقية.
وحاشا الله ان ادعو للحرب واغتيال الحياة والأمل, ولكنني مللت الكذب والخداع والوهم, وفقدت الأمل, مثلكم جميعا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى