كستنا

كستنا …
مجد الرواشدة

ما زال صوت خرفشةِ الأكياس يتخذُ مسكناً بقوقعةِ أُذناي ، وما زال مشهدُ عامود البيت وهو عائدٌ من السوق هو المشهد الذي يشكلُ علامة فارقة في كبِدِ بيتنا ، كُنا نركضُ أنا وإخوتي باتجاه الباب كأنما نحن كمشة َ بُرادة وطلةُ أبي هي الحديد ، نتحلق حوله ونصيح : بابا اجا بابا اجا ، ولكننا لم نَكُن نعلم أن أبي هو الضيف الذي سيطل علينا من بهو الباب دوماً سيبقى ضيف البيت ومعزب البيت بعدما فقدنا أمي ، يلقي أبي جاكيته الجلد على حافة الكنبة المقابله للباب ، وسرعان ما تبكي سترته بعدما بللها المطر ، حتى أنه كثيراً ما يترك شماغه وعقاله على الكنبة أيضاً كلها مبلولة آنذاك تُبللها حبات الغيث واليوم تُبللها دموع يُتمنا .
بيتُ أهلي، كأنما هو قلبٌ بين الضلوع ينبضُ ورداً لا دماً ويخفق وداً لا نداً ، وكأنما الأيام داعبتنا كحجر نرد تارة نحظى برقم واحد وتارة تتكالب الظروف و بالكاد ننالُ حصة الأسد حين تستندُ حجرة النرد على قاعها وتظهر لنا رقم ستة وهو عددُ أفراد البيت بعدما غادرتنا أمي واتخذت المقبرة سكناً لها ، كنا نستدير أمام ( صوبة البواري ) وكثيراً ما كُنت أعبثُ بمقبض الهواء تماماً ذاك الذي كُتب عليه صوبات الشُعله ولربما حرقت أطراف أصابعي مرات كثيرة وأنا أعاود الكرة ، ولكن الطريف أن أمي كانت تحتفظ بالقصدير الحافظ ِ لعلب حليب النيدو , ففي ذاك الوقت كان زجاج المدافىء سريع الانكسار وسرعان ما نستبدله بقصدير مقوى تثقبهُ والدتي عده مرات ، ما يثير عجبي أننا أكُنا نغطي بذاك القصدير ألسنه النار عن مرآنا ، أم أننا عيوننا ملت من مشاهد الاحتراق .
عموماً كان أبي حين يعود نفتشُ الأكياس بحثاً عن أصغره وأغلاه ، إنه كيس الكستنه ، كانت تلقى رواجاً طيباً في قلوبنا ، وما زال صوت إساورةِ أمي وهي تطرقُ بحافة سدر الحديد صوتا ً حاضراً في مخيلتي ومخيلة إخوتي , تنادي إحدانا لنجلب لها أفضل سكين في المطبخ كانت تصفُ حبات الكستنه على السدر ، وتجرحها على شاكلة اشارة الجمع بالرياضيات ، وبعدما تنهي ذلك تلقي بحبات الكستنة على بهو الصوبة وبين الحين والآخر تُقلبها وقليلاً ما تركن علينا بتقليبها ، رائحة الكستنا بالبيت ، وتلك الجروح التي تركتها أمي بحبات الكستنه بدأت تتفتح أكثر تقرر أمي اشهار استوائها ، وحينها تأتي بورقة فاين لكل واحدٍ منا ، تقسم علينا الحب تماماً كما لو أنه خرجية معاش ، وتبقى ترقُبنا من بعيد تعوض أياً منا حالما كانت حبته راودها الخراب ، أو بقيت ملتصقه بقشرتها ، تضع من حصتها لنا تحرم نفسها كي تُبسطنا ، تُشبه الحياة لحد كبير الكستنة نكون صغارا ينتظرنا أهلونا تماما ً كما كُنا ننتظر أبي ، نكون عوداً غضاً ثم تحرقنا ألسنة الحياة رويداً رويداً تشيع في أجسادنا جروح الحياة ، لكن الفرق الوحيد أن أمي لن تعطينا حصتها من حظوظ الدُنيا كما فعلت معنا ونحن صغار ، الجروح تكبر والضمادات تكاد تتلاشى ، كنت أسمعُ كثيراً عن كستنا ليست تركية تبقى قشرتها ملتصقة بحباتها ، أظنها تجسد مشهد الانسان الذي يعيش برفقة كل العثرات التي مر بها بحياته ، مهما حاول الهروب يبقى كلٌ منهما ملتصقا ً بالاخر ، لذا تذكروا حين تملكون أحداً يقشر لكم حبات الكستنا احذروا أن تخسروه فهذا سيترك في قلوبكم فجوة كبيره .
دمتم بخير .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى