قهوة تركية من الرشفة الاولى / د.رياض ياسين

قهوة تركية من الرشفة الاولى
مدير مركز إكليل للدراسات والاستشارات
نجح اردوغان في التفوق من الجولة الاولى ،وشربت جماهيره رشفة قهوتها الاولى بطعم الفوز والطمأنينة أن العهد الأردوغاني بطعم القهوة الذي اعتادوا عليه فأدمنوه في ديمقراطية فريدة جرت مراسيمها في ظل حالة طوارئ مفروضة على البلاد منذ صيف 2016.
المشهد السياسي الديمقراطي يضاهي الديمقراطيات الغربية الأوروبية وربما يتفوق عليها،فالحزب الحاكم اي حزب العدالة والتنمية تحدى نفسه وأجرى انتخابات مبكرة ليثبت للجميع ان الصناديق الشعبية مليئة بأوراق رابحة لصالح إنجازاته،ومن هنا سرعان ماتلاشى داخل فنجان القهوة التركي ذلك العكر الذي ترسب في أذهان المشككين والطامحين للإطاحة بنموذج أثبت قدرته على ان يكون الاكثر نجاحا رغم الكثير من الانتقادات.
تركيا اردوغان استطاعت ان تتجاوز اختبارات كبيرة وأهمها على المستوى السياسي ذلك الانقلاب العسكري ليلة 15 تموز 2016.، وليس مصادفة أن يحدث انقلاب عسكري في تركيا،فقد شهدت الجمهورية التركية، منذ تأسيسها، تدخلات عديدة للجيش في الحياة السياسية من خلال أربعة انقلابات عسكرية، اثنان منها أدت لتغيير الحكومة دون سيطرة الجيش على مقاليد الحكم.
لكن الانقلاب الأخير الذي حدث كان بمثابة جرس إنذار ليكشف عن صراعات خفية داخل الدولة ومؤسساتها،فقد كشف هذا الانقلاب عن مراكز قوى داخل مؤسسة الجيش والقضاء والمكاتب النافذة في الحكم في جمهورية الفولاذ التي استعصت على كل الخصوم في السنوات العشر الماضية على الأقل.
توقيت الانقلاب جاء يشبه فنجان قهوة ساخن جدا نبعت سخونته من نيران محدقة ،بمعنى أن انقلابا عسكريا هو آخر شيء تحتاج إليه تركيا في الوقت الذي تعاني من امتداد رائحة الحرب السورية الى ارض ديارها، وسخونة تهديدات تنظيم الدولة الإسلامية، وارتفاع حرارة التمرد الكردي.
لقد كشف الانقلاب عن فكرة الدولة العميقة في تركيا،والدليل حملة التطهير والتصفية لفنجان قهوتها من كل الشوائب التي ترسبت في قاعه على مدى العشر سنوات الاخيرة،والسؤال المطروح لماذا لم تحدث عملية التطهير لمؤسسات الدولة منذ تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم بصورة فعلية في البلاد وسيطرته على مفاصل الدولة،لطالما ان المسألة ليست وليدة هذه الأيام؟ وقد نكون أكثر اتزانا إذا قلنا بأن اي دولة فيها اختلافات سياسية وتمايزات ،وليس من المعقول ان تنقلب الدولة على نفسها وتبدأ بتطهير كل المختلفين عنها في حال فاز حزب ما واعتلى سدة الحكم،فالديمقراطيات تقوم على فكرة وجود الحزب وخصومه في الحكم ،وقد تكون المعارضة حاضرة في البرلمان وكل مؤسسات الدولة حتى في مؤسسة الجيش ،حيث لايوجد ضمانات لعدم وجود توجهات تختلف عن سياسة الدولة. لكن يبقى السؤال الأهم كيف يمكن للدولة أن تضمن سير قطارها الى المحطة الاخيرة لفترة حكم الحزب دون ان تحدث انحرافات هنا وهناك، مع الاخذ بعين الاعتبار أن القيادات من الصف الثاني في الجيش التركي لم تكن راضية عن توجهات اردوغان وسياسته الاستراتيجية خاصة في التعامل مع الازمة السورية والملف الكردي،ناهيك عن قيادات في الصف الأول،فهناك ضباط لديهم توجهات ليبرالية وآخرون لديهم توجهات قومية كمالية،ناهيك عن الموالين لزعيم حزب “خدمت” غولن صاحب النفوذ في تركيا وأوروبا والولايات المتحدة.

يبدو مع الانتخابات الاخيرة ان حزب اردوغان – يلدريم لم يسلك نفس الطريق في التغاضي عن التوجهات والتيارات والمرجعيات التي تنتشر داخل تركيا الحزبية الديمقراطية،على العكس فقد اتاحت الانتخابات اعلان انهاء حالة الطوارئ المفروضة منذ ايام الانقلاب الفاشل في يوليو – تموز 2016، على العكس قدم الفرصة لكل الأحزاب لترى حجمها ودورها بعد كل العواصف التي تعرضت لها تركيا في السنتين الاخيرتين، وقد تبين بعد كل ذلك أن الدولة التركية لم تقم بتعميق فكرة الدولة العميقة وعسكرتها فتخسر منجزاتها وانفتاحها وتصبح بسلوكها تشبه ديكتاتوريات عسكرية،لكن ماحدث ان تعززت الديمقراطية والشراكة المنتظرة بين المكونات الحزبية باعتبار انه لا يمكن تشكيل حكومة من حزب واحد هو العدالة والتنمية بل يحتاج الى تحالفات وتشاركية سياسية مع الاحزاب الاخرى.
جاءت النتائج واضحة رغم تحالف المعارضة وتماسكها ،فقد حل أردوغان في المقدمة بحصوله على 52,7 بالمئة في الانتخابات الرئاسية، وحصل التحالف الذي يقوده “حزب العدالة والتنمية” بزعامة أردوغان على 53,65% في الانتخابات التشريعية.أما منافسه الرئيسي محرم إينجه فحل ثانيا في الانتخابات الرئاسية مع نيله 31,7% من الأصوات، في وقت حصل التحالف النيابي المعارض لأردوغان والمؤلف من أحزاب معارضة عدة على 34% من الأصوات في الانتخابات التشريعية.
ليس من مصلحة اردوغان ان يكون ديكتاتورا مستبدا، وليس واردا على مايبدو ان يكون أحاديا في دولة متعددة في الوقت الذي على مايبدو ان مناهضيه وخصومه السياسيين انتقدوه وضمروا له المكائد باعتبار ان طموحاته السياسية كانت لخلق ملكية في ظل الجمهورية بمعنى ان يكون رئيسا واسع السلطة والصلاحيات فحاولوا ضرب طموحاته وتبريد سخونة قهوة سلطانه لكنهم لم يفلحوا.
وبنظري ان الانتخابات الاخيرة مهمة لأنها نقلت تركيا من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي، وهذه المرة لن يكون هناك رئيس حكومة كما هو الحال في النظام البرلماني السابق،بل سيكون على غرار النموذج الأمريكي بوجود وزراء مرتبطين بالرئيس اي رئيس الجمهورية، كذلك ستكون صلاحيات الرئيس واسعة جدا ليكرس قبضة حزبه وطابعه على الدولة التي على مايبدو انطبعت بخاتم العدالة والتنمية بأحقية،فالصناديق هي التي قررت والإرادة الشعبية انتصرت بالغالبية حتى لو كانت بسيطة لكنها كافية لتشرب الجماهير قهوتها وتستلذ من الرشفة الاولى.
rhyasen@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى