قناصو المناصب

قناصو المناصب
أ.د. انيس الخصاونة

ترددت كثيرا في الكتابة في موضوع التزاحم على إشغال المواقع العامة في الأردن نظرا لحساسيته وإمكانية تفسير بعض أصدقائنا من أصحاب المعالي والعطوفة من أنهم مستهدفين أو محسودين من قبلنا مع أننا نعتقد أن إشغال مثل هذه المواقع أحيانا قد يدخل في باب الابتلاء ولا يشكل مدعاة للحسد.

ومن منطلق خلفيتي التخصصية في الإدارة الحكومية، فإن السعي للمواقع القيادية مسألة مشروعة وتنسجم مع أساسيات ومقتضيات النمو الوظيفي والتطور المهني، فمثلما يسعى الموظف لزيادة دخله المشروع من رواتبه فإنه يسعى أيضا للتطور في السلم الوظيفي، أو ما اصطلح على تسميته (حوافز معنوية).

في مثل هكذا ظروف ومنطلقات فلا غضاضة ولا همز ولا لمز في طموح الموظف وسعيه للوصول إلى المواقع القيادية ما دام هذا السعي يأتي ضمن مسارات وقنوات مشروعة ومتسقة مع أخلاقيات الوظيفة العامة والقيم العليا للمجتمع.

مقالات ذات صلة

مشكلتنا لعلها تكمن في ذلك النفر، وهم كثر للأسف، الذين يسعون لقنص الفرص مع أنهم ليسوا أهلا لها. هؤلاء النفر لا يعدمون الوسيلة في القفز على حقوق زملائهم وحقوق المرشحين للمواقع القيادية مع أنهم أكثر كفاءة وجدارة منهم. قناصو المناصب العامة يسيرون في قنوات ومسارات غير تلك التي يحتكم إليها سائر الموظفين، وغير تلك المعلنة في شروط الترشيح والمقابلات والمؤهلات.

قناصو الفرص ربما يتم وضع شروط محددة للترشح لتنطبق عليهم، وربما يحتصلون على أعلى العلامات في المقابلات، وربما يدرج شرط للتقدم للوظيفة لا ينطبق إلا على شخص واحد هو المستهدف بالتعيين للوظيفة القيادية كما حدث مع أحد المسئولين في الجامعات عندما وضع معيار لاختيار شاغل الوظيفة بأن يكون قد خدم في مؤسسة دولية أو إقليمه مما أسهم في اختياره لموقع جامعي رفيع ما لبث وأن أقيل منه لعدم الكفاءة.

كثير من قناصي الفرص منافقين ومزاودين على الآخرين بالوطنية والانتماء في الوقت الذي يدرك معظم من حولهم و”المخالطين” لهم أنهم مدعون للوطنية، وأن انتمائهم الحقيقي هو لمصالحهم الضيقة وليس للوطن.

استخدام النفاق والتزلف لقنص المواقع العامة للأسف أصبحت حالة مجتمعية تعززها قيم جديدة مستحدثة على منظومة وقيمنا وأخلاقنا فترى وزراء سابقين وأعيان ونواب وسفراء وأمناء عامين ومدراء دوائر ورؤساء جامعات وأكاديميين وكتاب يعزفون على أوتار المسؤولين ويرقصون على أنغامهم.

الغريب في الأمر أن جائحة النفاق والتزلف وممالئة الحكومة لا تقتصر على الموظفين وإنما تمتد عدواها لتشمل بعض العامة من الناس من غير الموظفين أو من الذين يستبعد أن يكونوا من ضمن قائمة المرشحين لوظائف القيادية فما مصلحة هؤلاء يا ترى في التزلف أو الردح أو النفاق؟.

كثيرون يتحدثون عن الحكومات الرشيدة ولا يألون جهدا في إلصاق هذه الصفة “الرشيدة” بالحكومات المتعاقبة، مصطلح الحكومة الرشيدة مصطلح هجين ولا ينسجم لغة أو اصطلاحا مع قواميس السياسة وأبسط أبجدياتها التي تقوم على المصالح وليس على المبادئ.

لم أسمع يوما عن استخدام مصطلح الحكومة الرشيدة في أي بلد ديمقراطي حيث أن صفة الرشاد لا تستوي ولا تجتمع مع مصطلح الحكومة التي قال عنها المفكر الفرنسي المعروف مونتسكيو في القرن الثامن عشر بأنها ينبغي أن تبقى تحت أعين الشعب ورقابته.

نعم لم أسمع يوما عن الحكومة الأمريكية الرشيدة ولا عن الحكومة الكندية الرشيدة أو الحكومة الفرنسية الرشيدة أو الحكومة الكندية الرشيدة وكل ما سمعته هو نقد وانتقاد دائم ولاذع لهذه الحكومات في أكثر الدول ديمقراطية.

قناصو الفرص وممالئو المسئولين وأصحاب السلطة لن يتوقفوا عن إيجاد المصطلحات النفاقية الجديدة، ولن يألوا جهدا في الاستمرار في نفاقهم ما داموا يجنون منه ثمارا وما دام نفاقهم يحقق لهم ما يصبون إليه من مواقع وفرص ومكاسب مادية ووظيفية.

التحولات التي يمر بها الأردن وحملة تعقب الفساد والفاسدين ووقفهم واسترداد أموال الشعب تؤشر إلى توجهات إيجابية للدولة الأردنية، وتعكس مناخات سياسية واقتصادية ربما تصب في كبح جماح المنافقين والمزاودين وقناصي الفرص.

نعتقد هنا بأن هذه الحملات والتوجهات ينبغي أن تتصف بالاستمرارية والديمومة لا أن تكون موسمية ومحدودة ولا أن تكون ذات أهداف سياسية أو شخصية.

الحكومات عبر أجهزتها الرقابية والأمنية والإدارية والقانونية هي التي يقع على عاتقها الحد من ظواهر استخدام النفاق والتزلف والمزاودة لوسائل للوصول للمواقع القيادية وقنص المناصب العامة، وإن لم تفعل فإن جيلا أو أجيال بكاملها يمكن أن تتشرب وتستيقن مسالك ومزالق النفاق والازدواجية والانحراف عن فضائل وقيم عليا يعج بها تاريخنا العربي والإسلامي مثل الاستقامة والإخلاص وقول الحق والانتصار للمظلومين ومقاومة الباطل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى