قلوبٌ تحت الرّكام

قلوبٌ تحت الرّكام

د. #جودت_سرسك

هل سمعتم أنينَها وهي تصرخ ولم تهلعْ لتوسُّلِها قلوبُكم؟ تصرخ شامُ مِن تحت رُكام الخرسانة الإسمنتية وجُدُرِ #الظلمة قائلة: “مشان الله ياعمو طالعني”.

رغم كلّ #الركام والجدران المتساقطة فوق جسدها الريحاني الغضّ ماتزال شامُ تمسك بغصن يديّ أمها التي ذوَت بكبرياء وقد غطّت رأسها ونطقت الشهادتين وشهادة ثالثة على جور الدنيا وشقائها. ماتزال شامُ بهية العينين نضرة الخدّين وإن كسا #الغبار طلاء أظافرها الجميلة ورسوم الحنّاء على ساعدها الرقيق كالياسمين، وقد أعدّته لتريه معلمتها سوسن في أول يومٍ دراسي لها.

ما أجملك يا #شام وما أجمل خصلات شعرك المنسدلة على جراحنا وما أعذب لكنتك ونبرة صوتك المنبثقة من مزامير داود.

جثم الإسمنت الغادر فوق قدميها فلم تستطع الحراك، كيف تقوى يا قهر الجدار على أن تحطّ بجبروتك فوق زهور شام وحقيبتها المدرسية التي بعثرتَها بعد أن أعدّتها الطفلة شام بعناية ووضعتْ فيها سندويشة الزعتر واللبنة وعلبة العصير.

كانت شام قبل نومها تراجع كراسة الخط العربي وواجب الإملاء: إس و آ سا، إس و إي سي، إس و أُو سو، كيف لك يا جدار الغدر أن تكسر قلبها وأقلام رصاصها.

كانت تجلس بصمت وسط الظلمة والبرد خمسة أيام، كالنرجس ينبت فوق الثلج شامخاً، كانت تبوح لرجل الدفاع المدني بانتهاء الماء الصحيّ من بيتها وبألمٍ جثم فوق قدميها دون أن تعرف أنه ألم الحديد والركام، سلّي ياشام وجعك فمن أوجاعنا تنسُلِ، وكفكفي دموعك لتكفّ دموعنا عن المهطَلِ.

أمسك المنقذ يدها بعد أن عثرت فأسُه عليها من تحت الركام، فقد تأخرت المعونات الإنسانية عن نجدتها فهي موصومة بعار شمال غرب سوريا وقسوة قانون قيصر.

راح يهدئها ويحادثها حتى تظل على قيد التنفّس وقد انقطع عنها الدم العربي سنوات عجاف وراح يجرّها بعد أن استطاعت أنامله أن تمسك بزهر كفّيها وقال لها اخرجي ياشام، فأبت شام أن تفارق أمها، وكيف تفارقها ولمّا تُعدّ لها مريولَها المدرسي الموشّح بالعزة والكرامة: شام ياحبيبتي أعدتِ لي هويتي أعدت لي كرامتي، كانت شام تتلقى حبّ الوطن والسماء والسهول والبحر من دفقات أمها منذ الفطام. خرجت شام من تحت الركام وقد أخذت معها منديل أمها وبوطها المزركش بالياسمين وكراسة الإملاء.

ما أقساك أيها الزلزال وما أشد ضراوتك أيتها الأرض وقد ابتلعتِ أبناءك بلا ذنبٍ اقترفوه سوى أن ردّدتْ حناجرُهم “مالنا غيرك ياسوريا مالنا غيرك يا الله”.

أفاقت دمشق وحمص واللاذقية وحلب تنبش آثار أبنائها، فما وجدتْ غير الأشلاء المتناثرة وبقع الدم المختلط بالدفاتر المدرسية وصفحات القرآن الكريم وفستان عرس ماريّا وصورها مع خطيبها المتوشح بالصليب.

ما أقساك أيها الزلزال، ألم تشفع لأبٍ انفطر قلبه حين علِق ابنُه في الطوابق العليا من بناية متساقطة وهو يصبّره وقد تشبث بحديدة سقف تتأرجح به، ماذا عساه يفعل وهو يسقط أمامه ولا يسطيع احتضانه في مشهد لا يقوى سيدنا إبراهيم على تحمّله إلا إنْ كان وحيا من الله، ما أسهل أن تذبح ابنك يا نبي الله بسكينك وما أصعب أن يغدر الزلزال به أمام ناظريك ولا تقوى على رؤيته وتكفينه فيتحول إلى بقايا ورقم في مقابر جماعية.

ياربّ لك الحمد مها استطال البلاء ولك الحمد مهما استبدّ الألم، إنا لن نستطيع صبرا وكيف نصبر على ما لم نُحطْ به خُبْرا، فلا تؤاخذنا بما نسينا  ولا ترهقنا من أمرنا عُسرا.

لا تحزني ياشام إن تبعثرت أوراق حقيبتك وتمزق مريولك الثوري وبهتَ كُحلُ عينيك، فإنه الوجع الأخير والألم الأخير والحزن الأخير، فحضنك أوسع من بطانيات المساعدات الإنسانية ودمعاتك أزكى من أنهار غوثنا، فما أدفأ كساءك الذي غطى حاجتنا وعوزنا من المحيط إلى الخليج.

لقد انتفضت غازي عنبتاب وقهرمان مرعاش لأجل عينيك وافتدت طفولتك بكلّ شيء لديها، أرضها وبحرها واتحدت عواصم العداوات والصداقات روسيا وأكرانيا والجزائر وفلسطين.

هل تعلمين ياشام أن فلسطين المجردة من المعونات قد افتدتك بشبابها، فقدمت لك أعذب تضحية  بعيد الزلزلة، حيث أقبل شاب من القدس على الموت بصدره وسيارته علّ دماءه الزكية تواسي جراحك وتوصل لك اعتذار أولى القبلتين وتردّ لك شيئا ممّا قدمته لها منذ القسّام الأول حين كان جدك يخبيء من قوتِك ليشتري رصاصة يرسلها للمجاهدين في أحراش يعبد جنين.

لا شيء كألمك ياسوريا، يا أرض الفداء ووجع المسيح يطهّرنا، فحطام أرضك فاق الجغرافيا والديموغرافيا والكراموغرافيا والعروبُغرافيا فلا شيء دون غطائك يستر عورتنا عرباً وعجما.

من ذاق وجع صبرا وشاتيلا يعرف وجعك ياجندريسا حلب، فمقياسك سبعة وسبعة ريختر آذن بقرب الدنيا وأعلن حالة الذعر الإنساني، هزة تتلوها هزة حيث لم يعد بعد وجعك مكان للخصام السياسي ولا فرقة طائفية ولا تمزق شيعي سني ولا قصف روسي أو غارات محلية.

لقد وقع قبلك ريّان في بئر المغرب فانتفضنا له، أما أنت فلم يحتمل القلب أن ينتفض من أجلك فقضى نحبه.

من سيقُصّ بعدك ياشام الحكايا والتاريخ الناصع، من سيقضّ مضجع المغول ويصدهم على أبواب حمص الأبية، مازلتُ أرى تلك اليد التي تلوّح مِن تحت الأنقاض ولا يعلم غير الله إن كانت يد امرأة أو رجل بعد أن أرهقها الجفاف خمسة أيام وضيق الأكسجين ولكنها ماتزال تلوّح رافضة الاستسلام، تلك هي الشام التي ترفض أن تُنكّسَ رايتها وتًصِرُّ على الشموخ.

ستفيق شام لتلعب بفانوس رمضان وتتزين لعيد الفطر وتردد أغنية رمضان جانا وفرحنا بعد غياب، مرحب مرحب ياهلال أهلاً أهلاً كيف الحال، فعساه الألم الأخير والأمل بالله الذي وسعت رحمتُه كلّ شيء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ما زلت صاحب الفكر الإسلامي العروبي الوحدوي الشامل، ولا زالت لغتك عبقرية، والخيوط التي تمدها في جغرافيا الجراح وايام التاريخ، ذكية تصنع النسيج الحكائي الفريد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى