قرار الإنتحار

#قرار_الإنتحار
د. #رياض_ياسين
إن تصاعد حالات الإنتحار والتفكير بها باتت ظاهرة مؤرقة في مجتمعنا الأردني، خاصة وان الظروف الإقتصادية والإجتماعية مرشحة لمزيد من التعقيد ،ونبقى نعبر عن استغرابنا من هذه الظاهرة من منطلق أن مجتمعاتنا متدينة بالفطرة ولديها حسابات مقدسة لفكرة الحياة الآخرة،لكننا امام مقولة ” الفقر كفر” نحاول ان نفهم ذلك، على العموم لا يخفى على أحد حالة الإحباط التي يعيشها مجتعمنا في طبقاته الكادحة والمسحوقة وشبه المتوسطة. لقد باتت حالات الانتحار تؤرق الجميع، فالمجتمع والأسرة وبعض الهيئات المحايدة باتت تدق ناقوس الخطر مترقبة ومعلنة ان هذه الظاهرة ستستمر لطالما استمرت مسبباتها خاصة بين فئة الشباب تحديدا.

الانتحار هو سلوك إنساني شائع ومعروف في كل العالم،لكن فكرة الانتحار لاتقوم على الإعلان عن قيام المنتحر بذلك،فهي في الغالب تتم بالسر والكتمان،وهذا يعني أن الغرض الحقيقي منها هو الحياة الأخرى بعد أن سأم صاحبها من حياته الدنيوية،وقد يكون أشبع كل ما يروم في حياته الدنيا فيقرر نيابة عن القدر أن يذهب لحياة أخرى ظنا واعتقادا بأن الحياة الأخرى مختلفة في كل معانيها وماهيتها. وربما يكون في ذلك ناحية فلسفية لها علاقة بفكرة الحياة والموت من ناحية التلازم باعتبار أن الكائن الحي يسير نحو الموت بشكل غريزي،وقد يكون هناك حالات أخرى للتفكير بإزهاق النفس من خلال فكرة القتل الرحيم التي يدور عليها جدال كبير في أوساط الطب والتشريع الديني والمدني، ومن الممكن ان التفكير بالموت الرحيم بفعل صاحبه هذه المرة أفضل من البقاء حيّا دون حياة.

الكل يعرف أن أكثر العوامل المؤدیة إلى الانتحار ھي العوامل الاجتماعیة، تلیھا العوامل النفسیة، ثم العوامل الاقتصادیة، ویعود ذلك إلى أنماط التنشئة الاجتماعیة والخلافات العائلیة.

الانتحار لا يرتبط بمكان مدينة او قرية او بلدة ، وليس حكرا على المناطق البعيدة والمهمشة في الاردن،لكن هذه الاماك على مايبدو باتت على مرمى حجر من ظواهر مقلقة تبدأ من الانفلات الاجتماعي ومايتبعه من انحرافات سلوكية وتصرفات قد تصل الى ارتكاب جرائم، وتصل الى التطرف الديني والسياسي والعنف في السلوك المجتمعي خاصة بين الشباب.

وقد يبدو حماس الشباب للانتحار اكبر من الإناث ، وغالبا تتركز حالات الانتحار بشقيها التام ومحاولة الانتحار بين الشباب المعطلين عن العمل اي غير العاملين. وغالبا هؤلاء ليسوا متزوجيين باعتبار ان الأسرة والزواج قد تشكلان حاضنة اجتماعية تحول في كثير من الأحيان دون الوصول الى تلك النقطة السوداء في خط الحياة غير المستقيم اصلا في بلادنا.
تشير معظم الدراسات الى وجود علاقة ذات دلالة إحصائیة بین الطلاق والانتحار، وبین البطالة والانتحار في الأردن، والحكومات المتعاقبة اعانها الله ليست على مايبدو معنية تماما بهذه الظاهرة ومسبباتها بصورة مباشرة،مثلا تأتي توجهات الحكومات محبطة للشباب عندما يعلمون مثلا أن الفرص المتاحة في الدولة ومؤسساتها المهمة مخصصة لذوي النفوذ والحظوة من بعض العائلات والاعتبارات،وللعلم هناك الكثير ممن تجاوزوا سن الستين والسبعين مازالوا على راس عملهم ويتقاضون رواتب مزدوجة من الدولة بحكم تقاعدهم ووظائفهم الحالية.فكيف سيرى الشباب مستقبلهم في ظل هذه التوجهات والعناوين المحبطة.

لم يعد الانتحار في الاردن مجرد تهديد،بدليل تكرار الحالات بصورة شبه دائمة،وقد تجد الدولة الاعذار لمن يقوم بالتهديد بالانتحار من باب لفت النظر للبعض الذين عجزوا عن مجابهة بعض الصعوبات في الحياة. لكن من يعلق الجرس وهل ماتقوم به الهيئات المعنية في الأردن في هذا الموضوع كافيا خاصة في ظل تزايد اعداد حالات الانتحار ومحاولات المنتحرين الذين وجدوا على ما يبدو أن طريقة الإعلان عن نيتهم الانتحار تدخل في سياق الحلول السريعة للبحث في مطالبهم أو مساعدتهم في رأب تصدع حياتهم نتيجة طارئ أو ظلم دون ان يجدوا من يشتكون له ويشفي غليلهم.

ربما قد يبرر البعض إزهاق الروح على غرار ما يحدث مثلا عندما يقدم احدهم على قتل نفسه بيده حتى لايسمح لعدو بقتله في حال وصل الخطر إلى حياته بصورة لايمكن النجاة معها ،وهذه حالات قليلة عند البشر تحدث أحيانا في الحروب والنزاعات المسلحة التي يتخللها الوقوع في الأسر أونفاذ ذخيرة المقاتل من زاوية أن هذا المقاتل يستحضرالشعور بالكرامة الشخصية وأحيانا الرجولة التي نعرف معناها في مثل هذه الظروف الاستثنائية،وهنا الافتراض بان هذا الذي يقدم على قتل نفسه بيده من منطلق استحالة النجاة.

هذه الحالات الاستثنائية لاتبرر إقدام البعض على التفكير بالانتحار عند الفشل أو الإخفاق في أول امتحانات أبجديات الحياة،على اعتبار أن الانتحار في مجتمعنا عموما يتركز بين فئة الشباب،فهم الذين يثورون غضبا على مكتسب خسروه أو على مشروع تعثر أو على امتحان أخفقوا فيه،متناسين أن الكثير من قصص النجاح لاتأتي من المرة الأولى أحيانا،ومثال بسيط على بعض الذين تفوقوا في حياتهم العلمية كان بعضهم قد اخفق في اختبارات عديدة ،وأشير كذلك إلى تجارب تاريخية ويكفي فقط ما تعرض له الأنبياء والمرسلون من ملمات قد لايطيقها بشر ورغم ذلك صبروا وغيروا وجه البشرية.

المخاوف كبيرة في حالة اشتداد الأزمات خاصة المرتبطة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية وما يتخللها من صدمات قد تطرأ على حياتنا،وهنا المقياس الحقيقي لإيمان الناس بأن هذه الحياة كتاب مفتوح على كل الاحتمالات وان الاستمرارية في البحث عن مخرج هو المحك في الصبر على البلاء لحين الفرج،أما اليأس السريع فيقود حتما إلى كارثة كبيرة ستؤدي بالضرورة الى ارتكاب جريمة ما أو الانتحار وإزهاق النفس التي كرمها الله سبحانه وتعالى.

ومن هنا نرى أن المسؤولية الكبيرة تكون على الدولة وبالاخص النظام التعليمي والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والدينية في تعميق الرؤية وبث ثقافة التفاؤل وإشاعة روح الطمأنينة لدى الناس،وربما يكون تراجع القيم الاجتماعية من تكافل وتعاضد سبب مهم في التفكير بالقرارات الفردية غير المسؤولة أحيانا،وهنا مهم أن يتم تكثيف برامج التوعية وإعادة النظر بما ألت اليه المنظومة القيمية للمجتمع الذي بات يعيش حالة من التخبط في هذا المجال لدرجة أن هناك مستويات من القيم متباينة داخل المجتمع الواحد بحيث انك تشعر للحظة انك تعيش في عشرين مجتمعا ،وهذا لاينطبق فقط على الحالة الأردنية بل وعلى الحالة في البلاد العربية عموما. ومن هنا مهم جدا تفعيل الشراكة بين الحكومة ومؤسسات المجتمع الأهلي التي تهتم بهذا النوع من بث الثقافة الاجتماعية على أسس علمية راسخة تراعي الموروث الايجابي التوافقي والتكيف مع المعطيات الثقافية والحضارية والتكنولوجية،فتفعيل الشراكة بين الحكومة ومؤسسات المجتمع الأهلي المهتمة بذلك سيسهم في الحد من العديد من الظواهر والقرارات الفردية غير المسؤولة،فالكل مسؤول عن ذلك بدءا من الأسرة وانتهاء بالحكومة ومؤسساتها كذلك مؤسسات المجتمع الأهلي التي تتصدى في الكثير من برامجها لتعميق المنظومة القيمية الاجتماعية باعتبارها الحصن الأهم في حماية المجتمع من القرارات الفردية وغير المسؤولة للبعض.
rhyasen@hotmail.com

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى