كان في قلبي أنثى عبرية / د . ديمة طهبوب

كان في قلبي أنثى عبرية
قراءة في رواية ( في قلبي أنثى عبرية) للدكتورة خولة حمدي…
لا أدري من أين جاء البعض بأن الأدب بمختلف أشكاله يقع في دائرة القراءة والاستمتاع فقط او انه فسحة يرفه المرء من خلالها عن نفسه ويتحرر من ضغوطات الحياة فيقرأه في استرخاء من يتحضر للنوم او في مزاجية من يشرب فنجان قهوة يريد أن يسرح معه ويتخفف من رتابة الواقع!
لكل هؤلاء أقول أن لقراءة الأدب آداب ليكون الانتفاع الصحيح بالقصص الذي يهندس الروح، كما يقول ستالين، ويشكل الهوية ويبني معالم الجمال أو القبح في النفس الانسانية، فالأدب حالة استفزاز وتحفز وتحفيز لمكامن الشعور والتفكير، حالة تلاحم جميل ترسم بسمة او تجري دمعة او تدخل بك في ميدان فكرة، بغير هذه المعطيات تكون القراءة عملية اجترار لكلام ومضامين وحبكات يتوه القارئ في اتونها ليخرج بنتيجة سطحية تتلخص بالقول هذه رواية جميلة او قبيحة دون تبرير او معرفة للاسباب!
بهذا الاستفزاز قرأت رواية (في قلبي انثى عبرية) التي تروي الحبكة المعروفة لرحلة الانسان من الكفر الى الايمان ومن الشك الى اليقين، الا ان كلمة العبرية في العنوان يدعوك للتوجس فأنت محمل بتاريخ وتعايش حاضرا يرفض كل ما يتعلق حتى بظلال هذه الكلمة ومرافقاتها واشكالها فما بالك ان تعشعش هذه الكلمة في قلب البطولة وتتجرأ على التمركز في قلب العنوان، ولو كان المكتوب يقرأ من عنوانه لاختار بعض اصحاب المبادئ أن يبتعدوا عن النص منذ البداية كما يبتعد المرء عن الشر ويغني له! ولكن الفضول المحمود من اداب القراءة ايضا فلا يكفي النظر من على الشاطئ من يريد أن يغوص لصيد المعاني والافكار.
تدور احداث الرواية في مكانين: تونس حيث يعيش العرب، ويتمتعون بعلاقات جيرة بل زواج احيانا مع اليهود، ولبنان حيث المقاومة التي لا تعرف اليهود سوى كصهاينة اعداء محتلين.
وتكمن خطورة الرواية في انها تؤنسن الآخر (اليهودي في هذه الحالة) بناء على معطيات لا يعيشها كل العرب ولا يتصورونها فاليهود لا يوجدون في بعض الاقطار العربية ولا يمكن تخيل مشهد تحييد العداء ليأخذ أشكالا انسانية من الجيرة والصداقة انتهاء بالزواج! مع التنويه أن المشكلة ليست في الدين واتباعه والنفور ليس تجاههم غير انهم شكلوا مادة الصهاينة المحتلين والمستوطنين والقتلة حتى أصبح الكلام الدارج يشير اليهم كيهود دون قصد في ذم الدين او متبعيه بشكل عام! هذا بالاضافة الى ان الدين اليهودي استغل في اذكاء التطرف واثبات ما يرونه احقية في الارض وفوقية فوق كل اجناس البشر!
الرواية خطيرة لأنها تؤنسن الآخر، والآخر هنا ليس كأي آخر انه ما زال يشكل للأمة العربية بمجملها عدوا احتل أرضا تحوي معالم مقدسة كما احتل اجزاء واسعة من الاراضي العربية في مصر وسوريا ولبنان والاردن لذا ما دامت حالة الاختلال قائمة فإنه من الخطورة بمكان النظر الى اليهود بهذه الصورة وتقبلهم حتى لو كان بعضهم كذلك فعلا!
تقدم الرواية قصة ندى البطلة اليهودية التي يحملها الحب الطاهر لأحمد ان تتجشم الصعاب التي تكاد تودي بحياتها في رحلتها الخاصة من دين الى دين وفي البحث عن خلاصها وحيدة دون رفيق او مساعد حتى من حبيبها وخطيبها الذي يفقد ذاكرته في معارك المقاومة.
الكاتبة تقدم القيم والاخلاق على لسان ندى، وهي يهودية، وتجعلها تتحدث مطولا عن اخلاقية الاديان بينما يبدو العرب والفلسطينيون في موقف المتفاجئ من مواقف اليهود الاخلاقية، وهذا واضح في مشهد علاج ندى لأحمد عند اصابته في احد المعارك.
وقد لا نختلف نظريا ان الاديان السماوية جميعها تحمل قيما اخلاقية ولكن مدى تطبيقها على ارض الواقع وتبنيها كحالة عامة لا كشواذ عن القاعدة هو ما لم تنقله الكاتبة للقارئ، وبالذات في الديانة اليهودية، واكتفت بتقديم ندى كحالة مختلفة عن محيطها واهلها!
الا أن نقاش قضية الاديان وعدم وجود الفواصل بينها وهذا التعامل الساذج البسيط المثالي في تقديمها من خلال التزاوج بين العائلات يبتعد عن الحقيقة والواقعية فأكثر الحروب شراسة في التاريخ كانت باسم الدين قديما وهي الحروب الصليبية واشنعها مستقبلا يقدم باسم الدين ايضا وهي الملحمة التي يتحدث عنها اليهود او ما يعرف ب armagadon.
فهل يكفي الحب ليتغلب على الحرب وحسن الظن او سذاجة وطيب القلب ليحكم على مشهد غير واقعي ولا يحصل كثيرا في تقارب عوالم لم نراها الا مختلفة ومفترقة ومتعادية؟ هل نعول على التصاهر في القفز عن سنين من التناحر؟ وهل يمكن تقديم ندى وأحمد كنموذج قابل للتكرار؟ وهل كانت هذه النهاية السعيدة ممكنة بدون تحول ندى الى الاسلام؟
تحسن الكاتبة في تصوير التفاعل القلبي والصراع الداخلي والتغير في عواطف احمد وتصوره لزوجة المستقبل من امرأة «بقلب رجل، لديها من القوة والحزم ورباطة الجأش بقدر الرقة والحنان والنعومة. تحمل هم الإسلام والأمة في قلبها أكثر من الموضة ونوع السيارة والمنزل ذي الحديقة والمسبح. لا يهمها الآخرون وماذا يقولون» الى التفكير بيهودية ونسيان كل معاييره السابقة، ثم التفكير النمطي باعتناقها للاسلام والحوارات حول اليهودية والاسلام كلها تفتح آفاقا نحو معرفة الآخر وحوار الاديان وان كانت الكاتبة تتحيز في النهاية للاسلام، ويشتد الدفاع عن الاسلام في وجه الآخر الى درجة المباشرة والخطابة، وتتعمد الكاتبة ان يكون على لسان ندى التي عايشت غيره لتكسوه بالمصداقية، وبالذات في الحديث عن الفتوحات ومفهوم الحرب في الاسلام واخلاق الاسلام.
نبيلة وطاهرة قصة الحب العفيف بين ندى واحمد في الرواية فحبهما لم يكن ناريا ولا مشتعلا ولا غريزيا ولكن كان حقيقيا وقويا ولذا صمد لأنواء الاختلاف ومعارضة الاقربين ومصائب البعد وفقد الذاكرة والامل، وكأني بالكاتبة تقدم نوعا مختلفا عن قصص الحب المطروحة في السوق وتعود بنا الى رسالة ما زال البعض يؤمن بها ويمارسها مفادها: «يمكن ان تحب وتظل عفيفا، ورجل لا يحرص على حبيبته حتى من نفسه ورغباته قبل وجود اطار محترم لها لا يحبها ولا يحترمها».
في الرواية عناصر تشدك لا ريب ولكن من مطالعة سيرة الكاتبة قد يتوقع القارئ معالجة اكثر حذرا للمواضيع الخطيرة فالادب الاخلاقي سامٍ ونبيل وموضوعي ولكنه ايضا ملتزم فهناك مدرسة بأكملها اسمها مدرسة الالتزام في الادب وعندما يكون وطنك محتل وشعبك مشرد ومقتل تصبح الصورة مختلة والاحكام غير واضحة وعندها لا تكون بحاجة الى أدب يربك قيمك ويحول نظرك عن الهدف الاهم وهو مقاومة عدوك، ولكن هذا لا ينفي وجود القيم ايضا في الادب المقاوم ولكنك كما تمسك بزمام القوة فأنت تمسك بزمام الرحمة تعطيها اعطاء القوي لا باضطرار الضعيف.
لقد خاض سيدنا سلمان نفس الرحلة المريرة حتى سمي الباحث عن الحقيقة، ولكن لم يبق في قلبه سوى اسلامه حتى استحق هوية وكينونة اخرى يعرف بها فأصبح من آل بيت رسول الله، وبالمقابل عنوان الرواية لا يظهر هذا الانتقال في قلب ندى وان كان حصل في مسار الحبكة وتحقق تماما في النهاية.
خطورة العنوان انها تركز على القلب والقلب كعبة والمعبود لا يرضى بمزاحمة الاصنام فلا يمكن ان يترسخ التحول الا بقلب جديد تماما وعنوان يدل على ذلك بأضعف الايمان «كان في قلبي انثى عبرية»!
الرواية جميلة وتستحق القراءة بالرغم من خطورة بعض مضامينها على قارئ غر لم يتسلح بالمبادئ والقدرة على التفريق بين ما هو ممكن و ما هو مستحيل، وما هو رومانسي خيالي وما هو واقعي، وما هو مقدس وما هو مدنس، هذه الرواية تحتاج الى قارئ يؤمن بأن الحق والثأر لا يسترد بالحب فقط بل بالقوة التي يغدقها الحب على المحبين في توحيد هدفهم وبوصلتهم نحو حب أكبر في شكل الوطن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى