فِي بَيتِنا مُعَلّم

فِي بَيتِنا مُعَلّم
د. جودت سرسك

يأخذُكَ الكاتبُ الإيرلندي بفكرِه الاشتراكي بعيداً عنْ ماديّاتِ الحياةِ المعاصرةِ، ويُتحِفكَ بعباراتِه التي أصبحتْ مَوطنَ اقتباسٍ مِنْ كلِّ حَدبٍ وصَوب.
يقول برنارد شو : إنّ تمثالَ الحريّةِ موجودٌ في الولايات المتحدة وليس في مكانٍ آخر،لأنّ الناس عادةً لا يقيمون التماثيل إلّا للموتى. يتوشح برناردشو بلحيةٍ كثيفةٍ ويتَوّجُ برأسٍ أصلعَ فيفسر ذلك على أنه غزارةٌ في الإنتاج وسوءٌ في التوزيع.
إنّ أقسى عقوبة للكاذب، يقول برنارد شاو:لا تكمُنُ في ألّا يُصَدّقَه أحَدٌ، بلْ في أنّه لا يستطيعُ أنْ يُصدّقَ أحداً.
لقد استطاع برناردشاوG.B.S أنْ يغيَّر كيانَ الطبِّ ومهنته في أنكلترا، عبْرَ كتابِ معضلة الدكتور.Doctors Dilemma ،فلا تقدّمَ لمهنةِ الطبِّ إلا أنْ تضعَ القوانينُ حائلاً بين يَدِ الطبيبِ وجيبِ المريض ، بشرطِ أنْ تكفلَ الدولةُ للطبيبِ حياةً كريمة، لأنَّ الطبيبَ الجائع أخطرُ على المجتمع من مجرمٍ متمرّس.
نترقبُ في هذه الأيام الثقال بآلامِ كورونا وأعباءِ عيدِ الأضحى والتزاماتِ المدارس الخاصة ،ورحلة التحوّلِ من القمةِ إلى القاع والنكوص للوراء تحت ضاغطةِ الممارساتِ والتوغّلِ الحكومي على جسمِ الأردنِ عبر معلّميه وبُناةِ صرحِه،فهل يُعقل أنْ نأكلَ البيضةَ كاملةً حتى نتيقنَ مِن فسادها،كما يقول برناردشو؟.
أصلحْ نفسَك فسيقلّ عددُ الخونةِ لديك ولدينا ،حكمةٌ ترسمها أكفُّ المتظاهرين على أسوار الرابع ونغماتُ حناجِرهم التي استوحتْ لحنَها مِن مسرحِ وأدبِ برنارد.
شتّان بينَ مَن يزرعُ الوردَ فتفوحُ عبيراً ،وبَينَ مَنْ ينثرُ الهرواتِ في الطرقاتِ فتذوي الورودُ وتفوحُ روائحُ الخوفِ والجوعِ والبؤسِ في عيونها،شتّانَ بَين مَنْ يربّي ليحصدَ وبين من يقسوعلى أبنائه فيعقّوه عنوةً،فحين انسكبت القهوة مِن يدِ الصبي على فراش أبيه ابتسم وقال:وللأرضِ من كأس الكرامِ نصيبُ.
هل من بالون نجاةٍ يلقى لغرقى المعلمين الذين وصلوا إلى الشاطيء بسلام ،فنوهمهم أنّ العيدَ لهم والنشيدَ الوطني يحفلُ بهم ،هل مِن كيسِ عطايا يقدّم لهم فيكسو أطفالهم ويرقع فَتقَ ثوبِهم.
ضَربَ المعلّمُ ذاتَ مرّةٍ المأمونَ بنَ هارونِ الرشيد،ولمّا تولّى المأمونُ الخلافةَ بعدَ عشرينَ عاماً استدعى مدرّسَه فسأله: لِمَ ضربتَني؟ أجابه المعلّم: ألَمْ تنسى؟ فقال المأمون : واللهِ لا أنسى. فقال المعلّم: حتى تعلمَ أنّ المظلومَ لا يَنْسى.
إنّ تمثالَ الديمقراطية المنصوبَ على الرابع هو أكذوبةٌ كما يقول برناردشو ،إذ إنّ التماثيلَ تُقامُ للموتى، فقد سقط القناعُ عن القناعِ مرّة أخرى ،وصَفعتْ يدُ الغاشمين وجهَ الكرامة والحريّة وزجّت برموزها ليلةَ العيدِ في السجونِ تحتَ تُهمةِ الاستقواء على الدولة، فهل يَنسى المأمونُ مَن صَفَعهُ وزجّ بحُلمِه في القفَص؟
الحِكمةُ ضالّةُ الإنسانِ، فحينَ يجدُها فهو أوْلى بِها ،ولا تأتي الحكمةُ دونَ بَحثٍ وسعي ، فهل مِن الحكمة أنْ تُستبدَل الكرامةُ وقِيمُ التوافقِ والديمقراطيةِ بإملاءاتٍ خارجية تحت ذريعةِ الضائقة المالية.
وهل علينا أنْ نُعلنَ المخاضَ ونُجيشَ صفوفَ الكتّابِ لنعيدَ قراءةَ معضلةِ الطبيبِ ونستبدلَها بمعضلة المعلّم،الذي باتتْ جيوبُه فارغةً ‘وإنّ تضييعه لعمري تضييعٌ للمجتمع بأكمله.
في بيتِنا لوحةُ غزالٍ على ضِفاف نهرٍ منسوجةٌ بخيوط يدوية معلقةٌ على الحائط منذ وُلِد أحمد ،وحتى صار مُدرّساً ، وشجرةُ ليمونٍ وداليةُ عنبٍ وياسمينةٌ بيضاءُ فواحة تمتد غصونُها على أحضانِ سورِ البيت العتيق،وفي بيتنا عاملٌ وعسكريٌ ومعلّم.
في بيتنا معلّمٌ يصحو صَباحاً على أذانِ الفجر، ويبدأُ نهارَه بصَحْنِ فولٍ مُغمّس بطعم الثومِ والزيتِ البلدي، يكوي قميصَه بيدَيه فتظهَرُ عليه أعراضُ العشوائية والعجلةِ وتفوحُ منه أثناءَ الخروج لمدرستِه رائحةُ عطرٍ مركبٍ زيتي من محلات وسط البلد ، يرتدي حذاءً خارج الموضةِ، قد حصل عليه من محلات (البالة) الأوروبية مِن أسواقِ شارع الطلياني، يرتدي بيدِه ساعةَ كاسيو معمِّرةً، ويحملُ شنطةً جلديةً في موسمِ الامتحاناتِ ،ويركبُ سيارةَ (كِيا سيفيا) يعرفُها المعدَمون والبسطاءُ واصحابُ الأرزاق المتقطعة.
وفي البيت المقابل معلّم آخرُ أعادَ الثانويةَ ثلاثَ مرّاتٍ، ورسبَ في امتحانِ الكفاءةِ مرّتين ،وكان أولُ تعيينه في قرى الجنوب يملأ شاغراً،وفي الحيّ معلمون لا يميزون الحالَ من الصفة، ولا يجيدون قراءة نص إنجليزي دون تحضير ويحملون شهادة البكالوريوس في الانجليزية من جامعات حكومية وخاصة .
ليس معلّمُ اليوم كمعلّم الأمس، إذ يحفظُ معلمُ الإنجليزية ألفيةَ ابنِ مالك ومعلقة عنترة ويتغنّى معلم العربية بقوانين فيثاغورس ومعادلات التفاضل والتكامل، ويُمْكِنه أنْ يعطي درسا في الفيزياء إن تعذّر معلمُ المادة الأصلي عن الحضور.
معلمُ اليوم عددٌ بلا عدّة ،وجسدٌ بلا روح،يملأُ وجهَه الغضبُ حين يسمعُ بزيارة مشرفٍ ،ويفرحُ يومَ الأربعاء لقرب إجازة الأسبوع ، لكنّه مايزالُ يحملُ كرامةً بينَ جَنبيهِ فلا تَقتُلوها، ولا تُعِينوا الدهرَ على تمزيقِ ما بقِيَ مِن ثيابِه، فيمزّقَ ثيابَ أبنائِنا وبناتِنا ،صدّقوهم فيصدّقونَكم ،فليس أقسى مِن معركةِ التكذيبِ والتخوين لأبناء الذات.
في بيتِنا كرامةٌ وحريّةٌ ومُعلمٌ، فلا تعتقلوها ولا تقبِضوا روحَها أو تَسلِبوها حقَّها في العيش، ولا تهزموا ما بقي منهُم في مَعركةِ كرامَتِهم، ولا تُعلوا هَرَواتِكم على حاجبِ طباشيرِهم.

J_sh_s@hotmail.com

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى