في أثناء وقوع الجريمة / بسمة النسور

في أثناء وقوع الجريمة

هرع للترحيب بي، كما يفعل دوماً، موظف محطة البنزين التي أرتادها في العادة، غير أن ذهني كان مشتتاً، وقلبي حزيناً مكسوراً، وقد سيطرت علي كآبة من نوع عميق فادح في إثر النبأ الصاعق الذي تداولته وسائل الإعلام، عن إقدام مدمن مخدراتٍ لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره، بعد تخطيط وتدبير، على جز عنق والدته، واقتلاع عينيها، وهي تهم بالصلاة، ومن ثم محاولة الهرب التي باءت بالفشل، قبل أن يعلن، أمام الجهات الأمنية، عن رغبته بالإعدام، لأنه لا يطيق البقاء في السجن سنوات طويلة، ويؤكد على عدم إحساسه بالندم. وقبل ذلك، ينشر على صفحته في “فيسبوك” صورته، والضحية تحتسي الشاي، قائلا لها: إشربي يمّه، صحتين على قلبك. تتوالى، بعد ذلك، تفاصيل مروّعة عن منفذ الجريمة البشعة، ووالدته الضحية المسكينة التي اعتنت بصغيرها، وحمته، حين انفضّ عنه الجميع ونبذوه، جرّاء إدمانه المرضي الذي أفضى إلى هذه الفاجعة الكفيلة بإثارة السخط والأسى في النفس.
في عزّ انهماكي بتفاصيل القصة البشعة المؤرقة، أعلن مؤشر الوقود قرب نفاد البنزين تماماً. وصلت بصعوبة إلى المحطة، وأنا أخشى من أن تتوقف، في أية لحظة، لتخذلني على قارعة الطريق، غير أنها، ولحسن حظي، لم تفعل. واصلت طريقي في شوارع عمان المصدومة بهول الجريمة. قلت للعامل، بدون انتباه كبير، وأنا أركن سيارتي بمحاذاة المضخة: فلّ لو سمحت. فردّ ضاحكاً: فلّ ولّا ياسمين يا هانم. باغتني بجملته الذكية خفيفة الظل التي ذكّرتني بأن الحزن، مهما بدا ثقيلاً، وأسبابه موجبة، غير أن التفاتة بسيطة قد تبدّده، ولو إلى حين، إذا ما امتلكنا الطاقة على الفرح، لأبسط الأسباب. وهذا ما يمكن أن يُطلق عليه فن العيش، هذا الفن البسيط المدهش، الكفيل بتلوين الأيام، على الرغم من الأحزان المرافقة لنا، والتي لا نستطيع لها رداً لشديد الأسف.
قلت للشاب، وأنا أنقده الثمن: هل سمعت عن وفاة ملحم بركات؟ هز رأسه بتأثرٍ، بدا لي مفتعلاً، وهو يقول: خسارة شبابه، ده كان فنان عظيم. أجبت: لكني لا أحبه. كان مغروراً جداً، وأغانيه لا تعجبني. ردّ: صحيح كلامك، يا مدام، بس هو طيب وابن حلال برضه، والناس كلها بتحبه، ربنا يرحمه.
غادرت المحطة، ولم يدم طويلاً هروبي من تفاصيل الحكاية الصادمة، إذ سرعان ما عادت صورة الأم مقطوعة الرأس تهز جوارحي غضباً. في صباح اليوم نفسه، أطلق الكاتب زياد خداش مبادرةً في غاية الذكاء على صفحته في “فيسبوك”، من خلال فيديو قصير، جعل عصبةً من الأولاد، يذكرون اسم أمهاتهم، ويعبرون عن حبهم لهن وفخرهم بهن. تحمسّت للمبادرة الذكية التي تحتفل بالأنوثة، وتحطم نمط تفكير ذكوري مكرّس يجعل مجرد ذكر اسم الأم من الكبائر التي تجلب العار. وتحدثت مع صديقةٍ متخصصةٍ في سبل تعميم مبادرة زياد على أوسع نطاق، للمفارقة المؤلمة. وقبل أن ننهي نقاشنا، وعلى بعد كيلو مترات قليلة، كان المجرم يعد العدة لاغتيال والدته الطيبة الحنون، بأبشع طريقةٍ يمكن لمخيلةٍ مريضةٍ أن تبتدعها، تعين علي أن أكمل واجباتي اليومية بشكل اعتيادي، أقصد كما لو أن أماً مسالمةً عزلاء، لم يقطع رأسها، ولم تقتلع عيناها، ولم يخض الشارع المصدوم في جدل عقيم في جدوى لنشر صورة الرأس المقطوع المسربة والاحتجاج أن الرأس بدون حجاب (!)، غير متنبهين لواقعة هتك حرمة الحياة نفسها. ليس ذلك فحسب، بل ذهب بعضهم إلى تحليلٍ لا يخلو من إدانة للأم، كون العملية التربوية تقع على عاتقها حصراً.
عبث مطلق، جنون كامل، وكسر فادحٌ لليقين، وتوجّس كبير من الغد، إذ يمكن طرح سؤال: ماذا بعد كل هذا القبح؟ أي زمان أغبر مكتوب علينا اجتيازه؟ راضخين لواقع أسود، يفرض علينا شروطه الجائرة من فقر وجهل وتطرف وعنف وبطالة وإحباط، لا يجد الشباب مفرّاً منها سوى مزيدٍ من الغياب في عالم الهلوسة، بخس الثمن، إذ يفيد مختصون بأن ثمن سيجارة الجوكر فائقة الخطورة لا يتجاوز الدينار، وهي في متناول صغارنا في كل مكان، مواجهين معضلة كيف ننجو من هذا الطوفان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى