عندما قالت جدتي لهيراقليطس: غادي نهز كمامتي وما تعرفوني فين مشيت
الحسين قيسامي
“على مقعد الشمس لي مقعدا
ويبكي الغروب على شرفتي
ويبكي لأمنحه موعدا
شراع أنا لا يطيق الوصول ”
تطاردني هذه الأبيات لنزار قباني طوال اليوم. أجلس دائما على الكرسي القريب من الشرفة، اضع رجل على اخرى. تطل شرفة الغرفة على النهر.
نظرت إلى النهر فوجدت مياهه تتحرك…مثل ثعبان يزحف.
فكل شيء في حالة تبدّل وتغيّر مستمر. قد نتفق او لا مع الفيلسوف هيراقليطس أننا لا ننزل النهر مرتين. إذا اتفقنا مع فرضية الفيلسوف فكيف لي لا اطيق الوصول على حد تعبير الشاعر نزار. فصدورنا باتت ضيّقه ولا تتسع لسماع الآخرين ووجهات نظرهم . أرجعنا كوفيد 19 إلى ذواتنا بعد ما دمرنا الأرض ولوثنا المناخ وحققنا النسب العالية في الاستهلاك وصنعنا الانسان العالمي العابر للقارات. فرض علينا هذا الفيروس الكوروني أن نجلس في منازلنا ونحن لا نريد أن نجالس أنفسنا….سجناء الحجر الصحي…نرى كل شيء اسود..
وقد أحسن الفيلسوف الانجليزي ميل الوصف حين قال:
لو أن نملة وقفت على حجرٍ أسود كبير، في بناءٍ كبير، ولم تبرح هذا الحجر، فإنها سترى كل شيء أسود، وستظن أن هذه هي طبيعة الأحجار. بالامس القريب كنا في فضاء حر مثل النملة التي وقفت على حجرٍ أبيض ورأت أن اللون الطبيعي للأحجار هو اللون الأبيض. فالنظرية النسبية تقول: ” كل شيء يجب أن يكون له إطار، والإطار ثابت، وبسبب هذا الثبات، نستطيع أن نحسب الحركة” .
فقد تكون أنت نملة .. وأنا نملة وهي نملة وهو نملة ..
وكلٌ منّا يقف على حجر بعيد عن الآخر.
ارجعنا الحجر إلى فلسفة هيراقليطس: «أنا الذي قمت بالبحث في نفسي.». في زمن كورونا: ” الأنا” تُعْلِن لأول مرة عن نفسها وتطالب بحقها، ويتكشَّف أفقٌ جديد لم يعرفه الإنسان من قبلُ: هو أفق الذات، فها هي ذي عميقة عمق الهاوية، لا يستطيع غواص أن يصل إلى قرارها.
ها هو ذا هيراقليطس يبرز من بين الأمواج الأبدية وينادي: لستُ أرى إلا التحوُّل والتغيُّر، لا تخدعوا أنفسكم ولا تلوموا حقيقة الأشياء، ولكن النهر الذي تنزلون فيه للمرة الثانية ليس هو نفس النهر الذي نزلتم فيه أول مرة قبل الحجر. في شرفتي أتأمل النهر …سأجدف بعقلي في نهر الأمل حين أجد مكانه على خريطة الحياة..فجأة اسمع صراخ جدتي:
غادي نهز كمامتي وما تعرفوني فين مشيت