مشط جدتي

#مشط #جدتي / #أحمد_المثاني

رحم الله جدتي ، و رحم جداتكم اللواتي كنّا
فيض محبة و حنان .. يغمرن الأحفاد كما الأولاد
بعطفهنّ و رعايتهنّ . فكان حضنهنّ الدافىء ملاذاً
للبردان .. و للخائف ! نلوذ بهنّ من عقاب الأب
حين تأخذه سَوْرَةُ الغضب ..
كنت أزور جدتي في بيتها الريفيّ .. فأشعر كأنما
أنا في عالم من البساطة .. باطنه و ظاهره ..
الرأفة و الرحمة .. و القناعة و الرضا ..ببساطة
العيش ..حياة الريف و القرية ..قبل أن يهاجمها
الإسمنت و الإسفلت ! و قد كنت طفلا يعجب
بذاك البيت المبني من الطين و الحجارة ..يتوسطه
عقد بنصف دائرة ..يحمل جذوع الأشجار التي
اصطف القصب فوقها ..و كنت أعجب كيف يأوي
طائر السنونو الوديع إلى بيت جدتي ..أمناً مطمئناً
ليبني عشّه على خشب السقف ..يذهب و يؤوب
من طاقة هي فوق بوابة البيت ..وظيفتها ادخال
نور الشمس ..
كنت أيضاً أتفقد أثاث بيت جدتي ..الذي أشعر
به ببرودة طبيعية في الصيف ..فأرضه مصطبة
و فراشه حصير جميل و فراش من الصوف ..
خزانة جدتي ..صندوق مصدّف ..مزيّن بنقوش
و أفاريز مثلّثة ..و اسمه ” السَبَت ” . أما مونة
جدتي فهي في خزانة طينيّة لها فتحة من أسفلها
تفتحها جدتي ..لتأخذ من قمحها الذهبي .. أو
الطحين ..لتصنع منه أرغفة الخبز في ” الطابون
و عندها ..تملأ رائحة الخبز بالقمح البلدي أرجاء
الدار ..
كنت أتأمل وجه جدتي ..الذي بصفاء البدر
و حمرة الورد ..فيه علامات الزينة في زمن
شبابها ..وشم و سيال يزين ذقنها و جزءاً من
خديها ..كنت أتأمل يديّ جدتي المعروقتين
و قد أمسكت بحبل ينتهي بالدلو ..لتستحضر
حاجتها من الماء .من البئر الذي يتوسط حوش
دارها ..و كانت تقتصد في مائها ..قبل أن تظهر
ارشادات سلطات المياه التي تبخل بماء الشرب
و تغضّ الطرف عن الماء المهدور .. لملء برك
السباحة للمنعمين ..!
رحم الله جدتي ،، فقد كانت تحفل بزيارتي
الصيفية ..و ما أن أصل بيتها من تلك الطرقات
المتعرجة ..التي تشهد بيادر القمح و العدس
حتى تسارع جدتي بعد قبلاتها و ترحيبها
لتطارد دجاجاتها ..و تصطاد ديكا في ريعان
صباه ..ليحلّ في صينيّة المحمّر ..بالزيت
و البصل ..و عندها ..تفوح رائحة .. مازالت
عالقة بذاكرتي ..
جدتي كمعظم جداتكم ..كنّ أميات القراءة
لكنهنّ مدبّرات ..مقتصدات ..عابدات ..زاهدات
يفقن من نومهن مع خيوط الفجر الأولى ليبدأ نهارهن
بالتهليل و التحميد و رعاية الدجاجات أو الخراف
و توضيب الدار ! و لا يتشكين ..حتى إذا ما آن
حصاد القمح ..رأيت جدتي تسابق رجال القرية
لتحصد قمحها بيديها ..و تجمعه ..تغمّره ..و بعدها
لينقل إلى بيدر ..ليتكون تل صغير من سنابل
القمح الذهبية ..
رحم الله جدتي و جداتكم ..
نسيت ..أمّا عن مشط جدتي ..فهو كما مشط
جداتكم ..و دمتم .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى