عالم جديد قيد التشكل
حسن أبو هنية
ما نعرفه بشكل موثق أن #الحرب تعيد #تشكيل #العالم باستمرار، فـ”الحرب أم كل الأشياء” كما قال هراقليطس. ولا شك أن #الغزو_الروسي لأوكرانيا يهدف إلى تغيير العالم بالطريقة التقليدية عن طريق الحرب، وفي حال اقتصرت الحرب في أوكرانيا على إعادة تشكل الإقليم، فإن هذه الحرب التي تصر روسيا على تسميتها “عملية عسكرية خاصة”، تمهد لحروب أخرى تُعيد تشكيل العالم، وتؤذن ببروز #نظام_عالمي_جديد على أنقاض نظام ما بعد سقوط جدار برلين مطلع التسعينيات الذي فقد صلاحيته وقدرته على البقاء.
في حقيقة الأمر سرّع الغزو الروسي لأوكرانيا من وتيرة الحديث عن نظام عالمي جديد قيد التشكّل، إذ لم ينقطع الجدل عن تراجع مكانة الولايات المتحدة. فالصين تتحول إلى عملاق اقتصادي يتوسع في القارات الخمس بالاستثمارات والنفوذ والتحالفات الهادئة وروسيا لا تخفي طموحها باستعادة الإمبراطورية السوفييتية وتوسيع نفوذها، فيما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحفاظ على دورها ومكانتها وتفوقها.
سرّع الغزو الروسي لأوكرانيا من وتيرة الحديث عن نظام عالمي جديد قيد التشكّل، إذ لم ينقطع الجدل عن تراجع مكانة الولايات المتحدة. فالصين تتحول إلى عملاق اقتصادي يتوسع في القارات الخمس بالاستثمارات والنفوذ والتحالفات الهادئة وروسيا لا تخفي طموحها باستعادة الإمبراطورية السوفييتية
كشفت الحرب في أوكرانيا عن نهاية نموذج “حرب الإرهاب” التي جرى تسميتها بالحرب خلافاً لواقع مفهوم الحرب، وقد قيل إن مخاطر “الإرهاب” والردع “النووي”، حطما الشكل السياسي للحرب، المتجسدة بالحرب النظامية، كما نظّر لها كارل فون كلاوسفيتز في مؤلفه الشهير “عن الحرب”، وأن الشكل السياسي الكلاوسفيتزي للحرب قد تحلل في أشكال من بينها الإرهاب، وحرب التحرير، وحرب العصابات، مما تولد عنه عنف فوضوي وإرهابي، يمكن أن ينفذه أفراد أو جماعات محدودة دونما انتماء لأية دولة، كما وقع في حالة تفجير مركز التجارة العالمي. لكن حرب أوكرانيا تعيد الاعتبار لكلاوسفيتز، فكتابه لا يزال “أعظم وثيقة في تاريخ الأفكار” كما قال كارل شميت، وهو ما أكدته حروب القرن العشرين، القرن الذي تنعدم فيه الشفقة بحسب بول فيريليو، إنه قرن الحرب الشاملة. فالحرب دائمة، وهي ليست مولدة للتاريخ كما يقال، بل إنها دائمة، ليست دائمة في وقوعها من خلال المعارك، بل في الاستعداد لها.
إن الحرب حسب كلاوسفيتز “عمل عنيف يهدف إلى فرض إرادة طرف على طرف آخر”، وهي التي تحدد معنى السلام وتؤذن بصعود وأفول الحضارات. وقد باتت الحرب/ العنف واحتكارها المحدد الرئيس في تعريف الدولة كما قال ماكس فيبر، وقد جادل تشارلز تيلي بأن العنف والسعي لاحتكاره هو ما يفسر ظهور الدولة الحديثة في أوروبا وليس المبادئ الفلسفية المثالية أو التعاقد الحر، الأمر الذي يجعل عملية نشأة الدولة لا تختلف عن طريقة عمل عصابات الجريمة المنظمة، فالدولة الحديثة هي نتيجة غير مقصودة لسعي بناة الدول لتأمين مصالحهم عبر أربعة أنشطة تتمثل في جوهرها بصناعة الحرب.
ينفرد الإنسان بالحرب، إذ يمكن تعريفه بكائن محارب، فالحرب ظاهرة إنسانية خالصة، ينفرد البشر بممارستها دون الكائنات الأخرى. فالحرب كمجال للعنف وصراعٍ بين الإرادات حالة أصيلة في العالم، وهي من قدم الظواهر في التاريخ. وذهب غاستون بوتول إلى القول: إنّ الحرب هي التي صنعت التاريخ كونها المسؤول الأول عن التغيرات الكبيرة فيه كنشأة واندثار الحضارات، وإن تاريخ الإنسان بدأ بشكل لا يمكن إنكاره بكونه حصراً تاريخ الصراعات المسلّحة.
يُظهر التاريخ أن صراع الحضارات لا مفر منه، وأن الحروب هي التي تحسم النزاع وتحدد مكانة القوى في العالم، وعادة ما ينتهي عصر تعددية الأقطاب والقوى بصدام كارثي
يُظهر التاريخ أن صراع الحضارات لا مفر منه، وأن الحروب هي التي تحسم النزاع وتحدد مكانة القوى في العالم، وعادة ما ينتهي عصر تعددية الأقطاب والقوى بصدام كارثي. وقد شهد أواخر القرن الثامن عشر في ذروة عصر التنوير في أوروبا، انحدار القارة الأوروبية إلى جحيم الحروب النابليونية، وفي بداية القرن العشرين شهد العالم أسوأ الحروب في التاريخ البشري. ويبدو أن التنافس الراهن بين الأنظمة يهدد بنشوب حروب أشد هولا مما شهدناه سابقاً، ويشكل الغزو الروسي لأوكرانيا فاتحة لحروب وصراعات أشمل، فرغم الحرب الروسية في أكرانيا، فإن الأنظار تتجه إلى صراع الأنظمة بين الصين والولايات المتحددة الذي سوف يحدّد مسار القرن الحادي والعشرين ويقسم العالم بين هذين القطبين.
خلال السنوات العشر الماضية احتدم الجدل حول صعود وأفول الدول والحضارات، واختلفت الأنظار حول ماهية العالم الجديد ومصائره. فعلى النقيض من الآراء العديدة التي تحذر من الانهيار الوشيك للولايات المتحدة، يؤكد مايكل بيكلي أستاذ العلوم السياسية بجامعة “تافتس” الأمريكية، في كتابه “الفريدة: لماذا ستظل أمريكا القوة العظمي الوحيدة في العالم؟”، أن أيام الهيمنة الأمريكية لا زالت وفيرة، لكنه يشير إلى أن التهديد الأكبر لهيمنة أمريكا ليس قوة عالمية صاعدة بل الانهيار الداخلي، الذي سيجعل الحياة أسوأ بالنسبة لمعظم الأمريكيين.
ويشدد بيكلي على أن تاريخ بناء النظام الدولي هو تاريخ منافسة شرسة بين أنظمة متصادمة، وليس تاريخ تعاون متناغم. ففي أفضل الأوقات، اتخذت تلك المنافسة شكل حرب باردة، شهدت تنافس الأطراف على المصالح وقيام كل طرف بجسّ نبض الآخر في كل إجراء من دون الانزلاق إلى استخدام القوة العسكرية، ومع ذلك، في كثير من الحالات، تحوّلت المنافسة في النهاية إلى حرب نارية وانتهت بسحق أحد الجانبين للآخر. وهكذا، كان النظام المنتصر يحكم إلى أن يدمره منافس جديد، أو إلى أن ينهار ببساطة من دون وجود تهديد خارجي يحافظ على تماسكه.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو بيكلي متشائماً حول مصير النظام الأمريكي، ففي مقالة لاحقة بعنوان “كيف يؤدي الخوف من الصين إلى بناء نظام عالمي جديد”، يقول: قد تعاني الولايات المتحدة من أزمة دستورية في الانتخابات الرئاسية عام 2024 وتغرق في حروب أهلية. وحتى لو لم يحدث ذلك، فمن المحتمل أن تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها ممزقة في انقساماتها. في الحقيقة، يعاني العالم الديمقراطي من أكبر أزمة ثقة ووئام منذ الثلاثينيات. في المقابل، تتزايد القومية والشعبوية ومعارضة العولمة، ما يجعل العمل الجماعي صعباً.
يشكك الباحث والمؤرخ الأمريكي روبرت كاغان في كتابه “الغابة تعود مرة أخرى: أمريكا وعالمنا المعرض للخطر”، في ديمومة الهيمنة الأمريكية ويشير إلى أن النظام الليبرالي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية القائم على التزام الدول القومية بالمعاهدات والمؤسسات الدولية، ويحابي الديمقراطية والرأسمالية وسيادة القانون، أسفر عن “سلام ورخاء لم ينعم العالم بمثلهما في أي وقت آخر في التاريخ”، ولكن استمراريته ليست مضمونة، وظهوره بعد عام 1945 كان “انحرافاً تاريخياً عظيماً” تزامن مع انهيار مراكز القوى القديمة في أوروبا وآسيا، وصعود الولايات المتحدة الليبرالية الرأسمالية الديمقراطية الملتزمة بالأممية والمنغمسة في منافسة مع الاتحاد السوفيتي الذي يمتلك قوة نووية. وكانت النتيجة انفصالاً قوياً عن ماضٍ من الدورات اللا نهائية من صعود قوى وتصارع قوى وسقوط أخرى، وهي النتيجة التي شهدت “تقدماً مذهلاً على مدى العقود السبعة الماضية”.
ومع ذلك، فإن هذا النظام في خطر الآن، فالغابات -تلك الأماكن التي تعج بالفوضى والاضطراب والصراع- “تنمو مجدداً، والتاريخ يعيد نفسه، وتعود الأمم للعادات والتقاليد القديمة”. ومؤخراً قال كاغان في مقالة بصحيفة “واشنطن بوست”: إن الولايات المتحدة تسير قدماً نحو أكبر أزمة سياسية ودستورية لها منذ الحرب الأهلية، مع احتمال وقوع حوادث عنف جماعي وانهيار للسلطة الفيدرالية وتقسيم البلاد لجيوب متحاربة يتباين ولاؤها بين جمهوريين وديمقراطيين، على مدى السنوات الثلاث إلى الأربع القادمة.
هذا النظام في خطر الآن، فالغابات -تلك الأماكن التي تعج بالفوضى والاضطراب والصراع- “تنمو مجدداً، والتاريخ يعيد نفسه، وتعود الأمم للعادات والتقاليد القديمة”
يسلط الاقتصادي الأمريكي الشهير جيفري ساكس في كتابه “سياسة خارجية جديدة ما بعد الاستثنائية الأمريكية”، الضوء على مخاطر استمرار السياسة الأمريكية على نفس الطريق، وبقول في كتابه أن الولايات المتحدة تواجه اليوم خيارين لا ثالث لهما، إذ “إن عليها أن تختار بين مصيرين محتملين، أولهما الصراع، الذي قد يتطور إلى حرب نووية، والثاني هو التعاون السلمي”. ويضيف أن السبيل الوحيد لتجنب الأول هو أن تتخلى أمريكا عن مفهومها المؤذي عن الاستثنائية، وهو الاعتقاد الراسخ (وبالنسبة لساكس، الخاطئ) بأن الولايات المتحدة هي الأمة التي لا تشبهها أي أمة أخرى، خُلِقَت لتكون عظيمة ومُلزَمة بالقيادة. وسواء اتخذ ذلك الاعتقاد شكل الإيمان بالقرن الأمريكي، الذي دفع البلاد نحو مسار محدد طوال القرن العشرين، أو شكل الضغوط القاسية الناتجة عن مفهوم أمريكا أولاً الذي ينعش إدارة البيت الأبيض الحالية، فإن فكرة الاستثنائية وإن خدمت القوة الأمريكية في بعض الأحيان، تُنذر اليوم بكارثة.
خلاصة القول أن العالم يتشكل بالحرب عبر التاريخ، وأن الصدام بين الدول والحضارات لا مفر منه، ويبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا هو بداية لحروب أوسع وأشمل، فالعالم الذي تشكل عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي ودشن هيمنة أمريكية في عالم أحادي القطب؛ على وشك الأفول مع عودة التنافس بين القوى العظمى.
أثبتت الأحداث الأخيرة أن الصين تدشن بهدوء لدبلوماسية “الدولة الكبرى الجديدة”، لكن السؤال هل يمكن ذلك دون حرب؟ لا أعتقد أن ذلك ممكن
ورغم تحدي روسيا للهيمنة الأمريكية عبر بوابة أوكرانيا، إلا أن الأنظار تتجه نحو الصين. ففي جلسة استماع مؤخراً أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب قال قائد قيادة أفريقيا للقوات الأمريكية “أفريكوم”، ستيفن ج. تاونسند: “كل الأنظار مصوبة الآن نحو أوكرانيا، ولكن في هذا الوقت لم ينطفئ التنافس بين الولايات المتحدة والصين، بل على العكس تماماً يمكن رؤيته حتى في القارة الأفريقية”.
وكان الرئيس الصيني هو جين تاو قد طرح في خطاب ألقاه خلال الجلسة الافتتاحية للجولة الرابعة للحوار الاستراتيجي والاقتصادي الصيني- الأمريكي في أيار/ مايو 2012، مفهوم “الدولة العظمى الجديدة” الذي ستسعى اليه الصين في القرن الواحد والعشرين، وأن الدولة العظمى الجديدة لا تسعى إلى الهيمنة، وأنها دولة يمكنها التعاون والتصالح مع أوروبا وأمريكا، والتنمية المشتركة مع دول العالم.
وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن الصين تدشن بهدوء لدبلوماسية “الدولة الكبرى الجديدة”، لكن السؤال هل يمكن ذلك دون حرب؟ لا أعتقد أن ذلك ممكن.