عالمنا الذي نكاد ان نفقد !!

عالمنا الذي نكاد ان نفقد !!
د. لبيب قمحاوي

أين عالمنا اللذيذ الجميل المتفائل الذي حظينا به واعتدنا عليه ، ونراه الآن ينسل من بين أيادينا ونكاد أن نفقده أو نفقد معظمه ؟

عند انتهاء وباء الكورونا تماماً فإننا سنفتح أعيننا على عالم جديد . وهذا سيكون عالماً منهكاً مصدوماً مرعوباً خارجاً من قمقم الحجر الصحيّ أو الموت العارم. عالمًا جديدًا يسير بين الرماد وعلى أنقاض عالم قديم منهار وحضارات وقِيَم تمّ سحقها جميعاً تحت أقدام وباء الكورونا بلا رحمة. حتى العلاقات الإنسانية والترابط العائلي ستكون قد دُمّرت تحت وطأة خطر الموت الجزافي أو الانعزال والتباعد الاجتماعي عن الآخرين تجنباً لذلك الخطر.

العقيدة والايمان والتراث والموروث الحضاري بأشكالهم المختلفة سوف يصبحوا جزأ من الماضي الذي فشل تماماً أمام جبروت وباء جرثومي صغير حقير في حجمه ، تحدى الانسان وقيمه ومعتقداته وانتصر عليها جميعاً ، والى الحد الذي جعل من إنسان ما بعد الكورونا كائناً خائفاً مرعوباً مفزوعاً ومفجوعاً في آدميته وإنسانيته وفي افتقاره المفاجئ الجديد الى القدرة على حماية نفسه وعائلته وكل ما يحب ومن يحب، والى الحد الذي أُرغم فيه على الابتعاد عنهم حتى ينجو بنفسه وحياته .

مقالات ذات صلة

اذا تفاقم الوباء وطال واستفحل، فإن إنسان ما بعد الكورونا قد يعيش وحيداً ويموت وحيداً . لا عزاء للناس ولا أفراح لهم أيضاً . الصلاة الجماعية وشعائر العبادة لكافة البشر سوف تتقلص ، وشعائر الموت والفرح كما نعرفها سوف تختفي .

المال والجاه والمنصب والنفوذ كل منها سوف يفقد أثره كقيمة وكدرع حماية لأي شخص وبحيث يصبح من يملك ومن لا يملك سواء بسواء أمام الخطر الفاجع في واقعه والمفجع في نتائجه .

سوف نفتقد جميعاً حميمية العلاقات الانسانية التي اعتدنا عليها ومنها صداقات الطفولة والمدارس والجامعات . سنفتقد مشاعر الحب والكراهية ، واللقاء والهجر ، والسلام والعناق ، ولمس الآخرين ولمسهم لنا ، والمبنية كلها على التواصل بين البشر . سنفتقد انسانيتنا وما يجمعنا وما يفرقنا . سنفتقد جمال الدنيا وتحدّي العمل ومتعة السفر . سنفتقد ما نعرفه وتربينا عليه لصالح ما لا نعرفه ونسعى الى اكتشافه . التوحد والوحدة الموحشة ستكون النتيجة الحتمية للعزل والتباعد الاجتماعي خصوصاً اذا ما طال أمد ذلك العزل والتباعد وشمل أوجه الحياة المختلفة بما فيها التعليم والعمل ليصبح كل شئ عن بعد . حتى متعة التسوق ابتدأت تنسحب لصالح التسوق عن بعد ، مستبدلين بذلك لذة لمس المشتريات وفحصها بالإكتفاء بالنظر الى صورتها وقراءة المعلومات عنها .

يعيش العالم الآن وللمرة الأولى الواقع الخيالي الذي تم عرضه سابقًا من خلال العديد من الأفلام السينمائية الخيالية عن العالم الموحش المتوحش في حقبة ما بعد أي وباء جرثومي مُفترَض . وقد يكون في ذلك درساً للبشرية في أهمية الاتفاق على ما هو في خير ولخير البشرية عوضاً عن تخصيص موارد الارض وخيراتها لخدمة وحشية الانسان وطمعه وحروبه العبثية ، واستنزاف موارد الطبيعة لمنفعة القلّة دون أي احترام لندرتها واهميتها لمستقبل البشرية جمعاء .

ان أهمية الاستثمار في قضايا البيئة والمحافظة على نظافتها وعلى التوازن الطبيعي في هذا العالم المزدحم بالبشر هي قضايا يجب ان تحتل الصدارة في عالم ما بعد الكورونا ، وعلى البشرية ان تتعلم الدروس التي طالما تجاهلتها بأن الارض والاجواء هي ملك للبشر وليس للأمم الغنية فقط ، وأن الثروة والموارد الطبيعية هي كنز لا يُعوّض وأن على البشر مسؤولية المحافظة عليها .

عالم ما بعد الكورونا ، بكل ما له وما عليه ، سيكون في واقعه من صنع أيادينا وهو النتيجة الحتمية لما فعلناه من سوء . إنه الدرس الذي يتوجب علينا جميعاً ان ننقله الى الاجيال الجديدة بصراحة وشجاعة ودون أي مواربة . البكاء والعويل والتحسر والندم لن يعيد لنا ما فقدناه أو نكاد أن نفقده . المطلوب الآن هو تعلم الدروس من اخطائنا والتأكد من أن تلك الأخطاء لن تتكرر ، ومسؤولية الشعوب في حسن اختيار قادتها ، خصوصاً قادة الدول الكبرى المؤثرة على مستقبل العالم ، تبقى في هذا السياق .

أرضنا الجميلة الكريمة المعطاءة قد حوّلها بني البشر الى مكب ّ للنفايات وللمواد السامة ومخلفات الحروب ، أساؤا الى طبيعتها وحيواناتها ونباتاتها وأجوائها وطيورها ومياهها ، وجعلوا منها كوكباً في طريقه الى الموت ، ورحماً لكل عيوب البشر ونقائصهم وجبروتهم وأنانيتهم المفرطة في كل ما يريدون ويرغبون حتى ولو كان في ذلك دمار الارض وخيراتها .

الكوكب الازرق النابض بالحياة في طريقه الآن ليصبح كوكباً اسوداً تفوح منه رائحة الموت والفناء ، ما لم يستيقظ بني البشر ويصحى ضميرهم ، او ما تبقّى منه .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى