التحالف المدني .. و السخط الجليّ / محمود الزعبي

التحالف المدني .. و السخط الجليّ

شهد الشارع الأردني ، مؤخراً ، تصادماً حاداً ما بين الهيكل الجديد لـ ” التحالف المدني ” و ما بين رد الفعل الذي لا يعدو كونه طبيعياً ، إلا ما احتوى منه على رزم الشتائم ، من الآراء المناوئة لهذا الإتجاه السياسي الحزبي الذي عاود طرق الحياة السياسية في البلاد خلال الآونة الأخيرة .
و قد رأينا بعض ردود أفعال القائمين على التحالف ، و خصوصاً مقال اليوم للدكتور مروان المعشر بعنوان ” حالة التحالف المدني ” ، المستهجنة بعض الشيء للموجة الشعبية الإلكترونية المضادة .. و التي سرعان ما هاجمت بكل ثقلها محاولة إنجاب حزب يحمل لواء الدولة المدنية ، و يهدف إلى تغيير معالم الدولة و سياساتها و تعاملاتها كافة .
أما المدهش في الأمر هو استغراب الدكتور المعشر من رد الفعل الشعبي الساخط ، و قد بدا لي أنه لم يكن يمتلك تصوراً مسبقاً عن رد الفعل هذا قبالة محاولته ، مع مجموعة من الأردنيين ، إستنجاب حزب يحث على مدنية كاملة للدولة .
حيث أن وجوده السابق على خارطة السياسة الأردنية ، و وجوده الحالي على خارطتها الإجتماعية و الفكرية لم يعطيانه هذه المرة تفصيلاً حقيقياً عن حالة الغضب المُتشرَّب في ” أنثروبولوجيا ” الإنسان الأردني ، إذا جاز التعبير ، و في عمق الذاكرة السياسية و مخاضاتها ، و عن حالة العداء الشعبي مع كل قوالب الفكر الحزبي الكلاسيكية ، إلى حد ما ، من الإتجاهات كافة ، سواء أكانت مع الفكر اليساري الإشتراكي ، و المدني العلماني بصورته التي لا يمكن أخذها إلا بأطرها التاريخية ، و حتى مع الفكر السياسي الإسلامي الذي اتخذ قالب الإخوان المسلمين ، و لم يحاول أن ينتج غيرها في المُجمل .

لا يخفى على من يعيش على هذه الأرض ، بين أفكارها و معتقداتها و أساليبها الفكرية ، و دينها على وجه الخصوص ، أن ثمة تقاطع و اصطدامٍ محوريّين ما بين الدولة المدنية بأطرها المعروفة ، و ما بين الإسلام الذي هو عروة لا يمكن تجزيئها على الإطلاق ، و أن هذا الإصطدام كله يأتي في إطار الفصل الكلي للدين عن السياسة . و أنه لا يمكن تجاوز هذا الإصطدام الفكري الشعبي بمجموعة ندوات تتحدث عن واقعية النظام الدولي ، و عن براغماتية السير مع الركب العالمي في نظمه الإقتصادية و السياسية و الفكرية و الإجتماعية .

إن إدخال الدين في السياسة بالقوالب الحالية للفكر الديني المحلي ، تبدو و كأنها لا تدفع المستقبل السياسي قدماً ، و انها لا تتناسب مع خيط الموازنة الدقيق ، الذي يجب اتخاذه منهجاً ، ما بين أخذ النظام الدولي المُحتك في تفاصيل حياتنا اليومية في عين الإعتبار ، و ما بين عدم التنكر للدين بشكل أو بآخر . كما أن محاولة التفريق القطعي ما بين الدين و الدولة تبدو و كأنها تجاهلاً صريحاً لحقيقة إختلاف الإسلام عن مسيحية القرون المظلمة ، و لحقيقة إختلاف النموذج العربي عن النموذج الأوروبي إبان ثورات الأنظمة المدنية التي حكمت أوروبا منذ قرون .. ولا زالت تحكمها .

تبدو لي محاولة غير واعية ، بالشكل الكافي ، لإقناع الشعب الأردني بفكرة الدولة المدنية ، و الإصرار على هذا النموذج ، المشبوه الى حد ما في العقل الأردني ، و عدم الإلتجاء إلى عقولنا لصياغة نموذج جديد .. لا يتنكر للحقيقة التاريخية التي تحدثنا دون مواربة بأن هذا الشعب مسلم حتى النخاع ، و بأنه يعتقد جازماً أن الله لم يكن مخطئاً حينما جعل الرسالة شاملة لكل جوانب الحياة البشرية ، دون استثناء ، و أن الدين لم يُحتكر في تشريع المعاملات و الميراث ، و أن الإقتصاد الذي ينادي به قالب الدولة المدنية لا يتوافق في وسائله ، إطلاقاً ، مع أحكام الشرع الإسلامي ، و أن الإسلام على وجه الخصوص لا يمكن أن يقنن في مجال أو اثنين ، و أنه يستعصي على ألا يحكم أو يشارك في أمور الحياة كلها .

لست في صدد المبارزة الدينية مع الإسلاميين او العلمانيين ، و لكني أنتقد هذه الإستماتة في تبجيل القديم ، نسبياً ، و المطروق من مذاهب الحكم ، و محاولة إستيراده و إلصاقه على حياة هذا الشعب . و الإغفال الشديد لقدراتنا العقلية على خلق فكر سياسي يأخذ في عين الإعتبار كل الإفتراقات و التلاقيات .

إنني أعي جيداً صعوبة هذا الأمر ، و لكنني أدرك بأن تجاذبات الإسلام السياسي و الليبرالية بوجهيها الناعم و المتطرف ، و اليسار أيضاً ، لم تجدي نفعاً في بلداننا العربية منذ منتصف القرن الماضي ، و أن استقطاباتها لم تبني وحدة وطنية على الإطلاق .
فلمَ لا نحاول أن نأخذ الأمر على محمل ” الحاجة أم الإختراع ” ، و لمَ نصر كل هذا الإصرار على التعامل بمنطق ثنائي الخيارات في توجهاتنا و تمذهباتنا السياسية !
إنني أرى أن محاولة خلق رأي عام موحد كما أوصى ” كونت ” هي الحل الوحيد للخروج من أزماتنا ، و أن إيجاد مثل هذه العقلية يحتم علينا أن نجبر أنفسنا على النزول من الأبراج العاجية لـ ” فصل الدين عن السياسية ” و لـ ” الثيوقراطية ” بشكلها الحديث ، و أن نقترب أكثر من بعضنا ، و أن نبتكر ما يناسب أغلب ما يدور على هذه الأرض من معتقدات و أفكار ، و إنني أرى بأن محاولة جادةً ” للتوفيق لا التلفيق ” .. هي السبيل الأوحد للنهضة على وجه هذه الخارطة ، و هي الواجب الوطني الأول و الأخير .

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى