رمضان شهر ليلة القدر عظيمة القدر

#رمضان شهر #ليلة_القدر عظيمة القدر

ماجد_دودين

الحمدُ لله الَّذِي نَصب من كلِّ كائنٍ على وَحْدانيتِه بُرهاناً، وتصرَّفَ في خليقَتِه كما شاءَ عزّاً وسُلطاناً، واختارَ المتقينَ فوَهبَ لهم أمناً وإيماناً، وعمَّ المذنبينَ بحلْمِه ورحمتِه عفْواً وغُفراناً، ولم يَقطعْ أرزاقَ أهلِ معصيتِه جوداً وامتناناً، روَّح أهلَ الإِخلاصِ بنسيم قربه، وحذَّر يومَ الحساب بجسيمِ كربِه، وحفظ السالكَ نحوَ رضاه في سِرْبه، وأكرَمَ المؤمنَ إذْ كتب الإِيمانَ في قلبِه. حَكَمَ في بَرِيَّتِه فأمَر ونَهَى، وأقام بمعونتِهِ ما ضَعُفَ ووَهىَ، وأيْقَظَ بموْعظتِهِ مَنْ غفَل وَسَها، ودَعَا المُذْنِبَ إلى التوبةِ لغفرانِ ذنبه، ربٌّ عظيمٌ لا يماثل الأنام، وغنيٌّ كريمٌ لا يحتاجُ إلى الشرابِ والطعام، الْخَلْقُ مفتقرونَ إليه على الدوام، ومضْطرُّون إلى رحمتِهِ في الليالي والأيام.

أحمدُه حمدَ عابدٍ لربه، معتذرٍ إليه من تقصيرِهِ وذنبِه، وأشهدُ أن لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مُخلِصٍ من قلبِه، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى من حِزبه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه ومن اهتدى بهدْيِه، وسلَّم تسليماً

ليلة القدر ليلة يُفتح فيها الباب، ويُقرّب فيها الأحباب، ويُسمع الخطاب ويُرد الجواب ويُسنى للعاملين عظيم الأجر. هي ليلة عتق وقربة ومصافاة.

قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [القدر]

وليلة قد أشرقت في تطلعي **إلى الله أدعو أستمد الرضا الأعلى

وأدنو بخفق القلب ملء ضراعتي **صمت وبعض الصمت من كلمٍ أجلى

وأسأل رب الكون للكون رحمةً ** حناناً وإحساناً وعافية مثلى

أيا ليلة القدر السنية ليت لي **شعاع تجلٍ منك يسعف في الجلى

ويسمو بهذا الحب حراً لربه ** من الملإ الأدنى إلى الملإ الأعلى

سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم لفلان قدر أي شرف ومنزلة.

“وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر”.

قال العلماء معنى ذلك العمل في ليلة القدر بما يرضي الله، خير من العمل في غيرها ألف شهر.

وقالوا: “عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر”.

وقال آخرون: معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

سميت ليلة القدر لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وعلى أمة ذات قدر.

“تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر”.

تنزل الملائكة وجبريل معهم في ليلة القدر من كل أمر قضاه الله في تلك السنة، من رزق وأجل.

قال العلماء: يقضي فيها ما يكون في السنة إلى مثلها.

“سلام هي حتى مطلع الفجر”.

سلام ليلة القدر من الشر كله من أولها إلى طلوع الفجر من ليلتها.

و“هي خير كلها إلى مطلع الفجر”.

عن أنس رضي الله عنه قال:” لمَّا حضَرَ رمضانُ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قد جاءَكم رمضانُ، شهرٌ مُبارَكٌ، افترَضَ اللهُ عليكم صِيامَه، تُفتَحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَقُ فيه أبوابُ الجَحيمِ، وتُغَلُّ فيه الشَّياطينُ، فيه لَيلةٌ خَيرٌ مِن ألْفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خَيرَها فقد حُرِمَ. “.

هذه ليلة يربح فيها من فهم ودرى، ويصل إلى مراده كل من جَدّ وسرى، ويُفك فيها العاني وتطلق الأسْرى.

لقد كان رسولكم – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يجتهد في العشر الأواخر ويعتكف، التماسا لتلك الليلة، كان يواصل ابتغاء لتلك الليلة.

فيا مَنْ ضاع عمره في لا شيء استدرك ما فات في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر.

يقول الأميري في ليلة القدر:

تألّه قلبي لمّا سَجَدتُ أهيم بمحراب خيرِ الأنام

وأُرسِلُ من شَفتيه الدُعاء وجيباً، وفي السمع سَجْع الحمام

وفي أعيني من سَنا الله بَرْق يُحَسّ، ولكنه لا يُشامْ

لهُ في خلاياي دفع ورَفْعٌ إلى شُرُفات حمىً لا يُرامُ

تحُفُّ بروحي عَوالمُ ولْهى كأني بها كُوِّنت من سلام

أغيبُ، كمن نام في نشوةٍ ونفسي … عُيُونُ هوىً لا تنام

وأشعُرُ أنّ كياني تمدّدّ حتى تَخَطى الدّنى والحُطام

أقولُ سموتُ؟! وفوق السُّموِّ أقولُ ثملتُ؟! وما من مُدام

أقول ارتويتُ؟! أجلْ لا ولا وَكيف ارتويتُ وكُلي أُوام

إلا إنها نُعمياتُ التجلِّي هُيامُ سجودٍ يفوق الهُيام

فسبحانك الله مِلء الوجودِ ومِلْء السُّجود ومِلْء القِيام

ويرق شعر الأميري ويرق ويعذب في ليلة القدر:

يا رُؤى الإشراق في الليلِ المنيرِ … يا شذا الرضوانِ في الخلدِ النضيرِ

هلْ لنَفْسي أَملٌ في نَفْحَة … مِن فُيوضِ الله، إنْ لج مسيري

هذه روحيَ حامَتْ وَلَهاً … وتسامَتْ فوقَ أجواءِ الأثيرِ

واشرأبت والجوى يَحْفِزُها … في التماس الأمَلِ الرحبِ الأثير

تبتَغي مِن لَيلةِ القَدْرِ سَناً … لَيتَها تنعَمُ مِنْهَا بعبِيرِ

وإليك هدايا الملك الكريم الجواد تزف في هذه الليلة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه”.

الإسلام ليس شكليات ظاهرية، ومن ثَمَّ قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في القيام في هذه الليلة أن يكونا “إيماناً واحتساباً”.. وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة “إيماناً” وليكون تجرداً لله وخلوصاً “واحتساباً”..

دَعا رَمضانُ الخَيْرِ كلَّ مُرابِطٍ لَدَيْهِ.. فَلَبَّى المؤمنونَ على الإثْـرِ

وطافَتْ بهمْ ريحُ الجِنانِ عَليلةً تَهُبُّ مِنَ الرّحمنِ.. ذائِعَةَ النَّشْـرِ

ليلة فضلها عظيم، وخيرها عميم، وكيف لا وقد شهدت نزول القرآن الكريم، الذي يقود من اعتصم به إلى جنات الخلد والنعيم، كفى بقدر ليلة القدر أنها خيرّ من ألف شهر، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: ١ – ٥].

ليلةٌ مباركة، من حُرم خيرَها فقد حُرم الخيرَ كُلَّه؛ ولذلك يستحب للمسلم الحريص على طاعة الله أن يحييها إيمانًا وطمعًا في أجرها العظيم، بالقيام والذكر والقرآن والدعاء، ومن فعل ذلك غفر له كل ما مضى من ذنوبه، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه”.

ويستحب فيها الدعاء والإكثار منه، وخاصة بما جاء عن السيدة عائشة – رضي الله عنها – قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدر؛ ماذا أقول؟، قال – صلى الله عليه وسلم -: “قولي: اللَّهم إنك عَفُوٌ تحب العفو فاعف عني”.

وقد كان السلف يخصون ليلة القدر بمزيد اهتمام؛ فكان ثابت البُناني يلبس أحسن ثيابه، ويتطيب، ويطيِّب المسجد بالنُّضُوح والدُخْنَة في الليلة التي يُرجى فيها ليلة القدر.

وكان لتميم الداري – رضي الله عنه – حُلَّهٌ اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.

وكما كانوا يستعدون لها بالتزين الظاهر؛ فإنهم علموا أنه لا يكمل تزيين الظاهر إلا بتزيين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها؛ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئًا.

فلا يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلا من زين ظاهره وباطنه، وطهرهما؛ خصوصًا لملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس وباطنه بلباس التقوى.

روي عن مالك بن أنس أنه إذا كانت ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب، ولبس حلة وإزارًا ورداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلا مثلها من قابل.

فعلى المسلم إذًا أن يتحرى هذ الليلة، فهي فرصة عمره وحياته، ومعلوم من السنة أن معرفتها رُفعت؛ لأن الناس تخاصموا: عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال: خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين (أي: تخاصما)، فقال: “إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة”.

وعن أبي هريرة قال: قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أُريتُ ليلة القدر، ثم أيقظني بعضُ أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر”.

وورد أيضًا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه التمسها في الوتر من العشر الأواخر، فقال – صلى الله عليه وسلم -: “التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في وتر؛ فإني قد رأيتها فأُنسيتها”

قال البغوي: وبالجملة، أبهم الله هذه الليلة على الأمة؛ ليجتهدوا في العبادة ليالي العشر طمعا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة… وأخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة؛ ليجتهدوا في الطاعات حذرًا من قيامها.

فخلاصة القول: أن المسلم يتحرى ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر: ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، فإن ضعف وعجز عن طلبها في الوتر الأواخر؛ فليطلبها في أوتار السبع البواقي: ليلة خمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، والله تعالى أعلم.

قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله -: كل زمان فاضل من ليل أو نهار فإن آخره أفضل من أوله، كيوم عرفة ويوم الجمعة، وكذلك الليل والنهار عمومًا آخره أفضل من أوله، وكذلك عشر ذي الحجة والمحرم آخرهما أفضل من أولهما.

ولقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اعتكف في العشر الأوسط من رمضان، قبل أن يعتكف العشر الأواخر التماسًا لليلة القدر قبل أن يتبين له – صلى الله عليه وسلم – أنها في العشر الأواخر، ثم لما تبين له ذلك اعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله -عز وجل-.

وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ” كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”، وشد مئزره أي اعتزل النساء، ويحتمل أن يريد به الجد في العبادة، ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا بقي عشرة أيام من رمضان يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه، وتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر.

يهون العمر كله إلا هذه الليلة، الليلة التي نزل فيها القرآن جملة إلى السماء الدنيا، الليلة التي يُقَدَّرُ فيها أحكامُ تلك السَّنة، وتكتب فيها الملائكة الأقدار، الليلة التي تتنزل فيها الملائكة.

لقد كان رسولكم – صلى الله عليه وسلم – يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها، ويعتكف التماسًا لتلك الليلة، كان يواصل ابتغاءً لتلك الليلة، فيا من ضاع عمره في لا شيء، استدرِك ما فاتك في ليلة القدر، فإنها تُحسَبُ بالعمر.

ليلة… يقبل الله فيها التوبة من كل تائب، يكتب فيها من أُمِّ الكتاب ما يكون في سنتها عن موت وحياة ورزق ومطر.

وهي ليلة مباركة تشرف فيها الأرض بالملائكة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ليلة القدر ليلة السابعة، أو التاسعة والعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى”.

ومن علامات ليلة القدر أنها تكون ليلة لا باردة ولا حارة، وتشرق الشمس يومها بلا شعاع: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ليلة القدر ليلة سمحة، طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء” وقال – صلى الله عليه وسلم -: “تطلع الشمس صبيحة تلك الليلة ليس لها شعاع، مثل الطست حتى ترتفع”، ولها علامات أخرى تظهر أكثرها بعد انقضاء الليلة. * الطست هو إناء كبير مستدير من نُحاس أو نحوه يُستعمل للغسيل

وقال مجاهد في قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}: سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان أن يعمل فيها شيء، وعن الضحاك عن ابن عباس قال: في تلك الليلة تصفد مردة الجن، وتغل عفاريت الجن، وتفتح فيها أبواب السماء كلها، ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب.

ابن آدم… لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي، أنت المختار من المخلوقات، ولك أُعِدَّت الجنة إن اتقيت فهي أقطاع المتقين والدنيا إقطاع إبليس، فهو فيها من المنظرين، فكيف رضيت لنفسك بالإعراض عن أقطاعك ومزاحمة إبليس على أقطاعه، وأن تكون غدًا معه في النار من جملة أتباعه، إنما طردناه عن السماء لأجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك، وطلبنا قربك لتكون من خاصتنا، فعاديتنا وواليت عدونا…

وتحزن النساء لفوات قيام ليلة القدر بسبب حيض أو نفاس، ولكن عليهن بإحسان العمل طوال الشهر لكي يتقبله الله منهن، قال جويبر: قلت للضحاك: أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القدر نصيب؟، قال: نعم، كل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر، ومعنى هذا أن الذي أحسن العمل في شهر رمضان يتقبل الله منه، والذي يتقبل الله منه لم يحرمه نصيبه من ليلة القدر.

ليلة القدر… ليلة يفتح فيها الباب، وُيقرَّب فيها الأحباب، ويُسمع الخطاب، ويرد الجواب، ويعطى للعاملين عظيمُ الأجر.

ليلةٌ … ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمةٌ عليكم غدًا بأعمالكم، فيا ليت شعري ماذا أودعتموها، وبأي الأعمال ودعتموها، أتراها ترحل حامدةً لصنيعكم … أو ذامةً تضييعكم.

ليلة القدر … عند المحبين ليلة الحَظْوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالي البعد، ففيها تنزل الأملاك بالأنوار والبر.

في العشر الأواخر، احترسوا من الغفلات القواتل، وتيقظوا فيها قبل لحاق الأواخر بالأوائل، واعتذروا فيها فإنها قلائل، قبل أن يرد اعتذار العاصي بتكذيبه، عظموها فإنها عظيمة الأمر، وانتظروا وارتقبوا فيها بحسن اليقظة ليلة القدر؛ فإنها غريبةٌ غريبة، وعجيبةٌ عجيبة.

هذه فرصتكم الأخيرة في هذا الشهر للنجاة … فتأهبوا في العشر بالعزم الصادق على الخير، واجعلوا هممكم مصروفةً إلى حراستها لا غير؛ فإنها عشرٌ بالبركات الوافرة قد حُفَّت، وبالكرامة الظاهرة قد زُفَّتِ، فأعدوا لقدومها عُدَّة، واسألوا الله فيها التوفيق إلى أن تكملوا العِدَّة، والحذرَ الحذرَ من التفريط والإهمال والتكاسل فيها عن صالح الأعمال.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: ١٩].

إن شهر رمضان قد قَرُبَ رحيلُهُ وأَزَف، وهو ذاهبٌ عنكم بأفعالكم، وقادمٌ عليكم غدًا بأعمالكم، فياليت شِعري ماذا أودعتموه، وبأي الأعمال ودعتموه، أتراه يرحل حامدًا صنيعكم أو ذامًّا تضييعَكم، ما كان أعظم بركات ساعاته، وما كان أحلى جميع طاعاته، كانت لياليه عتقًا ومباهاة، وأوقاته أوقات خَدَمٍ ومناجاة، ونهاره زمان قربة ومصافاة، وساعاته أحيان اجتهاد ومعاناة، فبادروا البقية بالتقية قبل ذوات البر ونزولِ البرِّيَّة وتخلى عنك جميع البرِيَّة.

أين المخلصُ المتعبد، أين الراهبُ المتزهد، أين المنقطعُ المتفرد، أين العاملُ المجوِّد، هيهات … بقي عبدُ الدنيا وماتَ السيد، وهلكَ من خطؤه خطأ وعاش المتعمد، وصار مكان الخاشعين كلُّ منافقٍ متمرد … رحل عنك شهر الصيام، وودعك زمانُ القيام، وألح النصيحُ وقد لام، أفتشرق شمسُ الإيقاظ وتنام؛ فاستدرك ما قد بقيَ من الأيام

حَنَانَيكَ يا شهرَ الصيام … إيهٍ يا شهرَ الشهور … مررتَ كالطيفِ وأسرعتَ الخُطا … فكنتَ كالحُلم لا كبقيةِ الآماد … وعليكمُ السلامُ يا شهرَ الإيمان …

السَّلامُ عليكَ يا شهرَ رمضانَ، السلامُ عليكَ يا شهرَ الصيام والقيام وتلاوةِ القرْآنِ، السلامُ عليك يا شهر التجاوز والغفرانِ، السلامُ عليك يا شهر البركةِ والإحسانِ، السلامُ عليك يا شهرَ التحفِ والرضوانِ، السَّلامُ عليكَ يا شهرَ الأمان، كنت للعاصين حبسًا، وللمُتقينَ أنْسًا، السلامُ عليكَ يا شهرَ النسك والتعبد، السلامُ عليك يا شهر الصيام والتهجد، السلامُ عليك يا شهرَ التراويح، السلامُ عليك يا شهرَ الأنوارِ والمصابيح، السلامُ عليك يا شهرَ المتجر الربيح، السلامُ عليك يا شهرًا يُتركُ فيه القبيحُ، السلامُ عليك يا أنسَ العارفين، السلامُ عليك يا فخْرَ الواصفين، السلامُ عليك يا نورَ الوامقين، السلامُ عليك يا روضةَ العابدين، السلامُ عليكَ يا شهرًا يتسابقُ فيه المتقون، السلامُ عليكَ من فؤادٍ لفِراقِكَ محزُون.

فيا ليتَ شعري: هل تعودُ أيامُك أو لا تعودُ، ويا ليتنا تحققنا ما تشهدُ به علينا يوم الورود، ويا ليتنا علمنا مَن المقبولُ منّا ومن المطرودُ، وهل إذا عادتْ أيامُك فنحن في الوجود، وننافسُ أهل الركوع والسجودِ، أمْ قد انطبقت علينا اللُّحودُ، ومَزَّقنا البِلى والدودُ، فيا أسفًا لتصرُّمك يا شهر السُّعُودِ.

وإِذا عَزَمْتَ عَلَى الرَّحِيلِ فإنَّمَا …. حُزْنُ الفِرَاقِ يَحُزُّ في الأكَبَادِ

فيا شهرَنا غير مُوَدَّعِ ودعناك، وغير مَقْلِىَّ فارقناكَ، كان نهارُكَ صدقةً وصيامًا، وليلُك قراءةً وقيامًا، فعليك منا تحيةً وسلامًا، أتراكَ تعودُ بعدَها علينا، أو يُدْرِكُنا المَنونُ فلا تؤولُ إلينا، مصابيحنا فيكَ مشهورةٌ، ومساجدُنا منكَ معمورةً، فالآن تُطفأُ المصابيحُ، وتنقطعُ التراويحُ، ونرجعُ إلى العادة، ونفارقُ شهرَ العبادةِ.

يا شهرَ رمضانَ تَرفَّق، دموعُ المُحِبين تَدَفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تُشقق، عسى وقفةٌ للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرَّق، عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسيرُ الأوزار يُطلَق، عسى من استوجب النار يُعتق.

اللَّهم أعتقنا من النار يا رب، اللَّهم تقبل منا رمضان، اللَّهم تقبل منا الصلاة والصيام والقيام وسائر الأعمال؛ إنك سميع عليم … اللَّهم سلِّمْنا لرمضانَ، وسَلِّمْ رمضانَ لنا، وتسلَّمْهُ منا مُتقبلًا … اللَّهم أَعِدْ علينا رمضانَ أعوامًا عديدة، وأزمنةً مديدة.

اللَّهم لك الحمد على أن وفقتنا لصيام رمضان وقيامه … لك الحمد يا رب على أن وفقتنا لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا … لك الحمد بالإيمان، ولكَ الحمدُ بالإِسلام، ولكَ الحمدُ بالقرآن، ولكَ الحمدُ بالصلاة والصيام والقيام والصدقة والإحسان وقراءة القرآن … لكَ الحمدُ أولًا وأخيرًا … لكَ الحمدُ لا نُحصي ثَنَاءً عليك؛ أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك … نحمَدُكَ حَمدًا يُوَافِي نِعمَك وُيكافِئُ مَزِيدَك … ونستغفرك ربنا من جميع الذنوب والخطايا والطاعات ونتوب إليك؛ إنك أنت التَّوابُ الغفور الرَّحيم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى