«رضى يفرشك ورضى يغطيكِ»: أدعية جدتي من القلب الى اللسان
«الله يرضى عليكِ رضى يفرشك ورضى يغطيكِ، ويحبب فيك القلوب القاسية والعبيد العاصية، ويجعل طريقك خضرة بحق الحرم والصخرة، ويستر عليك ستر فاطمة بنت النبي»
هذا جزء من الأدعية التي تشيعني بها جدتي، العجوز الثمانينية الأمية، أدعية تجمع بين رضى الرب ومحبة العباد وتيسير الأمور وسعة الرزق، أدعية كلما سمعتها فهمت لماذا دعي الصالحون العالمون من قبلنا «اللهم ارزقنا إيمانا كإيمان العجائز»، أدعية تذكّر أن الدعاء قلب لا لسان، وأن صلاح الحال يسبق صلاح المقال
إن الأجيال الشابة تشكو عموما من الفتور وقسوة القلب بالرغم أننا نعلم أضعاف ما يعلمه آباؤنا وأجدادنا، ونقرأ أحدث التفاسير، ونحفظ مأثور الدعاء، ونحضر أكثر المحاضرات والدروس والدورات تميزا، ونأتم بأجمل الأصوات، ونعتمر مع الظروف الميسرة مرات متعددة في السنة الواحدة، ولكن هذه كلها ظواهر لا تنفذ أحيانا إلى باطن القلب لكثرة ما يعترينا من التخليط بين الحلال والحرام والإحسان والإساءة، ولا يعجبنا حال أجدادنا ونتنكر كثيرا لنصحهم وسيرتهم متذرعين بفجوة الأجيال التي تجعلنا نظن أننا نعلم ونفهم أكثر من سابقينا لتطور الأيام والأحوال، وهو علم قد لا يجاوز آذاننا التي تسمعه وحناجرنا التي تنطق به
لقد جعل الله سبحانه وتعالى القلب موطن نظره، وأنزل القرآن على قلب رسوله وعباده «وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين» ليؤكد أن الوعي الأول يكون في القلب الذي يأمر بقية الجوارح بالحركة، فالإنسان قد يموت دماغيا ويستمر بالحياة، ولا يموت إلا عندما يتوقف قلبه حقيقة أو مجازا، ولقد فُضل أبو بكر رضي الله عنه بما وقر في قلبه كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدح رجلا من أهل الجنة ينام وليس في قلبه حقد على أحد، ونهر سيدنا عمر الرجل الذي طأطأ رقبته في الصلاة وقال له: يا صاحب الرقبة، ليس الخشوع في الرقبة، وإنما الخشوع ها هنا وأشار إلى قلبه،ولقد كان من دأب الصالحين محاسبة النفس على أعمال اليوم، وهذه من أعمال القلب، يحاسب المرء نفسه على ما نطق به لسانه وعملته أعضاؤه مما قد يكون نكت نكتة سوداء في قلبه
ربما لا تحفظ جدتي الدعاء المأثور، ولا أوراد اليوم والليلة والمحاسبة والتوبة والمشارطة، ولكني سألتها مرة، وقد تحسرت على نفسها أنها لا تحفظ دعاء النوم الذي سمّعته ابنتي الصغيرة، ماذا تقولين عند النوم فقالت: «علمونا أن نقول: وضعت جنبي اليمين وتوكلت على رب العالمين» أوليس هذا ذات مضمون دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم «باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وان أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»
بين دعائنا بلسان فصيح وقلب غائب ودعاء العجائز والبسطاء والمساكين والمخلصين وقفة تستحق المراجعة والتأمل قال فيها ابن سمعون الواعظ: «أما علمت أنه لا يقال غدا للعبد لمَ لم تكن معربا، وإنما يقال له لم كنت مذنبا؟ يا هذا ليس المرغوب الفصاحة في المقال، وإنما الفصاحة في الأفعال، ولو كانت الفصاحة محمودة في الأقوال دون الأفعال لكان هارون أولى بالرسالة من موسى عليه السلام حيث قال موسى إخبارا عن أخيه» وأخي هارون هو أفصح مني لسانا» ولكن الرسالة جُعلت لموسى لفصاحة أفعاله، والله أعلم حيث يجعل رسالته».