
اوراق مبعثره …الورقه الثانيه عشر
اعود باوراقي الي الستينيات ، و انا ارفع علم مصر في القسم الابتدآئي كل يوم ، قائلا “تحيا الجمهوريه العربيه المتحده “ بصوت مرتفع ثلاث مرات ليردد ذلك الطلاب من الصف الاول الي السادس في نفس واحد و صوت رعدي يهز الارض و يملاء الرئه قوه و شموخ و فخر و عروبه ، بينما العلم يرفرف ، و في المساء اقوم بتنزيل العلم .
يسبق ذلك ، قراءه موجزه لاهم الاخبار و الفقرات و تعليمات مدرسيه ضمن اذاعه كليه فيكتوريا التي تم اختياري لعضويتها و استمرت معي في الاعدادي و الثانوي و باللغتين العربيه و الانجليزيه . منذ ذلك الوقت و انا لم ابلغ التاسعه كان الميكروفون يرافقني و بالتالي التحاقي بالتلفزيون الاردني فور عودتي من رحله مع الملك الحسين الي كليه فيكتوريا بالاسكندريه لم يكن مشكله او صعوبه ، بل كان استمراريه.
كان معي في الفريق الاذاعي احمد منديل و الذي درس و تفوق في كليه طب الاسكندريه ثم تخصص في طب المناطق الحاره في امريكا و اصبح طبيبا ترآس معهد الابحاث الطبيه في الاسكندريه، كليه طب الشارقه ، و يعمل حاليا مع منظمه الصحه العالميه ، و معنا ايضا عبد السلام حدايه و الذي تخرج من جامعه هارفرد في علوم الكومبيوتر و عمل مع بيل جيتس ، مؤسس و صاحب مؤسسه مايكروسوفت و اغني رجل في العالم ، حيث عمل معه في مشاريع محتلفه من ضمنها تعريب مايكروسوفت الي العربيه و في احدث منتجات الشركه من الاي باد (Micro Soft source PRO -IPAD) , . كلاهما من اصدقائي المقربين ، حضرت اعياد ميلادهم و حضروا اعياد ميلادي ، و تعرفت علي ابائهم و الذي اذكر جيدا كيف اصطحبني عبد الحميد حدايه والد الدكتور المهندس عبد السلام الي مصانع ستيا لللملابس الجاهزه و كان من اهم رجالات الصناعه في مصر و تميز هو ووالده عبد السلام بالابتسامه و الاسنان اللامعه البيضاء و الود الذي لا ينقطع . اما والده احمد منديل فهي رسامه و فنانه شهيره و اهدتني الوان شمعيه (Crayon ) لا زلت الي يومنا هذا اقف في محلات الرسم و انظر اليهم و احب رآئحهتم . كانت فكيتوريا عائله واحده بمعني الكلمه و ليس فقط بالشعار المرفوع .
في الابتدائى كان المشرف علي الاذاعه استاذ احببناه و اطلق الجميع عليه “بابا منصور “ و في الاعدادي و الثانوي كان عملاق اللغه العربيه الاستاذ علي الصياد الذي قسم الصفوف و المدسه الي اسواق شعريه و تنافسيه و هما “عكاظ” و المربد”.
و في قسم اللغه بالاذاعه الانجليزيه كانت المشرفه السيده ذات السيجار و الشعر المصفف يوميا ، الحامله لعصا طويله تلوح بها في الفضاء و لا تضزب بها احد ، و هي ليتسا فلورانتس ، و هي يونانيه قبرصيه الاصل ، و تسلمت منصب رئيسه القسم الثانوي بعد نجاحاتها في اداره الطلاب بشده و حزم و لكن بضحكه بشوشه و محببه و ابتسامه ،حيث كان الجميع يحب ان يذهب اليها قبل طابور الصباح ليقلي عليها التحيه ، و بعد كليه فيكتوريا تركت الاسكندريه و اصبحت رئيسه تحرير جريده يوميه في قبرص و توفت هناك .
ليس فقط الاذاعه ، و كنا في كليه فيكتوريا تعلمنا كيف التفتيش علي الطابور الصباحي من خلال تواحدنا في فريق “ اداره و متابعه الطلاب “ ، حيث كان التفتيش اليومي يتم علي الملابس ، القميص الابيض ، الجاكيت و ازراره ، ربطه العنق و كيف هي معقوده ، البنطلون السكني ، الجرابات الرمادي ، قص الشعر ، و الاظافر . و طبعا هذا كان بدايه التدريب و التعلم الذي استخدمته لاحقا في التفتيش علي الطابور الصباحي في سلاح الطيارن الاردني و الذي التحقت به ، لدرجه ان اعجب قائد السلاح من هذا التفتيش الدقيق فعهد الي اكثر من مره ان اقوم بذلك ، و كنت سعيدا فلم تترك كليه فكتوريا شيئا للمصادفه فقد دربت و صقلت منتسبيها الي اقصي الدرحات و اعدتهم لحياه في اقسي الظروف و للتعامل مع الشيطان و هو ما جعل انتقالي من الاسكندريه الي عمان سهلا للتاقلم و النجاح .
كنت جاهزا و معدا للتلفزيون بلا خوف او رهبه ، فقد تعاملت مع الاذاعه ، مع الجماهير اثناء القاء الشعر في عيد العلم امام حضور كثيف من الطلاب المتفوقين و ذويهم ، حيث كان يرتفع التصفيق و يزداد لي مع كلي بيت شعر ، كان معي صلاح بوجازيه الذي يصغرني باعوام و كان لديه صوتا جهوريا و قوه احبال طويله تمتد مع القافيه الشعريه فلتتهب مشاعر الحضور منتزعا تصفيقا لكلينا و حيث كنا نشكل فريقا واحدا ، وهو ليبي الجنسيه هاجر الي امريكا و كان من لجان الثوره ضد الرئيس الليبي معمر القذافي.
وما ان حطيت الرحال في عمان ، حتي ورد اتصال هاتفي من مكتب وزيره الاعلام في اليوم التالي ، ليلي شرف ، تدعوني الي لقائها مرحبه بي ، و التقيتها باستامتها المعهوده و رتبت انتقالي في سياره الوزاره الي محطه الاذاعه و التلفزيون الاردني و التي دخلتها و كانت تحت الحراسه المشدده من الامن و قوات الجيش.
دون مقدمات ، كانت هناك اعداد كبيره تقدم امتحات تآهيلي لدخول العمل الاذاعي و التلفزيون و كنت اعتقد انني ضمن تلك المجموعات و لكن وجدت مدير التلفزيون الاعلامي القدير محمد سقف الحيط الشهير بمحمد امين ، ابو عادل ، في انتظاري و ذهبت الي مكتبه حيث اخرج مجموعه اوراق بيضاء و اقلام جافه و قال ليس لدينا وقت لاضاعته ، اكتب السؤال الاول : اذا تعرف عن الثوره العربيه الكبري ، و بدآت الاجابه ليقاطعني ،ان الثوره العربيه هي و املاني الاجابه ، السوآل الثاني : كم هي عدد المحافظات الاردنيه و ما هي اسمائهم و ايضا املاني الاحابات ، و رغم انني كنت اعرف الاحابات الا اني امتثلت لما قال . و بعد عشر اسئله و اجابات من قبل المدير عليها و كآني سكرتير شخصي اكتب له اوارقه ، اتصل مع اداره الاستوديوهات طالبا تخصيص ستوديو و كاميرا ، و ذهبت معه وحدت ستوديو في حاله تآهب و كآنها معركه و انتظار انقضاض علي فريسه .
جاء امره و كآنه استاذ مدرسه ، و حقا كان استاذ و مفكر و اعلامي كبير ، و قال : من فضلك اجلس خلف المكتب ، كاميرا استعدي ، عبد الفتاح تكلم و قل ما تشاء .
لم اكن محتاج للتفكير فيما اقول ، و علي الفور قلت و انا انظر بثقه مطلقه موجها وجهي الي الكاميرا بكل حب و اطمئنان وود : اعزائي المشاهدين في كل مكان ، اهلا و مرحبا بكم من التلفزيون الاردني الذي انطلق بتاريخ ٢٧ ابريل عام ١٩٦٨ حيث اعطي الملك الحسين اشاره البدءلانطلاق البث باعتبار الاردن الدوله الرائده، و هذا اليوم هو بدايه اكمال طريق النجاح لتصل رساله الاردن الي شتي بقاع الدينا معبره عن الانجازات الهاشمية “ ، و علي الفور مدير التلفزيون :كاميرا مان صوره يمين ، صوره يسار وستوب ، اعطوني الشريط “ و خرجنا مسرعين الي الدور الثاني حيث قدمني الي الاعلاميات الكبار زاهيه عناب مديره البرامج و التي يشهد لها بآنها من اهم المذيعات و العقول الاعلاميه البرامجيه و كان ان كرمها الملك عبد الله الثاني بعد ان عانت كثيرا منذ ان تقاعدت بطريقه غير لائقه بمشوارها الكبير الثري ، فجاء التكريم و دموعها تحمل غصه في القلب ابتكت الجميع ، و سمر خير مساعدتها انذاك و خريجه اعلام القاهره من قسم البرامج باعتباري المقدم و المعد الجديد . كان لهم هؤلاء الاعلاميات الكبار دورا كبيرا و هاما في نجاحي و تالقي ومساعدتي و تذليل كل العقوبات ، و تعاونا معي و كانتا خير عون في المسيره الاعلاميه و التي ساتحدث عن جوانبها في اوراق اخري لان التلفزيون الاردني ولد عملاقا و رحما للعديد من الفضائيات العربيه و كانت سواعد ابنائه ملحمه اعلاميه لبناء الام بي سي و العربيه و تلفزيون ابوظبي و دبي و الشارقه و سكاي نيوز و الجزيره و اليه ار تي و غيرها من الفضائيات التي تسيطر بنجاح و تميز علي الفضاء الاعلامي العربي الي يومنا هذا .
ونزلنا مسرعين من الطابق الثاني علي الدرج لم يحتمل انتظار المصعد ، و اتصل علي الفور مع معالي الوزيره و قال لها بالحرف الواحد “ سيدتي ، معاليك لقد نجح عبد الفتاح في الامتحان التحريري و حصل علي العلامه النهائية و الكاميرا احبت وجهه و نجح ، و الشريط سوف يصلك خلال نصف ساعه و معه الاخ عبد الفتاح طوقان “.
و عندما سئلته و هل هذا كل شيء ، اجاب يا اخي التعليمات ان تنجح و تعمل ما تشاء في التلفزيون و نحن سنعمل جاهدين علي مساعدتك و صقل تجربتك ، لقد انجب و اخرج التلفزيون الاردني عمالقه و دربهم و اعدهم و قدمهم توكل علي الله و التعليمات من فوق ، فاهم شو يعني فوق !!!الله يخليك بنا نحافظ علي منصبنا و علي الطلاق انت مؤهل ” . بعدها طلق زوجته و تزوج من مذيعه تلفزيونيه و تقاعد الي وفاته ، الدنيا حظوظ فعلا.
طبعا كنت مستعدا و حاببا لخوض التجربه فانا مجهز و مدرب من المدرسه الي الجامعه و البيت علي مواجه الجماهير و الكاميرات و الصحف ، و القيت خطابات باسماء الطلاب و في مؤتمرات طلابيه و كنت في فريق الصحافه المدرسيه و الجامعيه و مثلت في الاذاعه و تحدثت الي كاميرات التلفزيون في مصر و شاهدت القنوات المصريه الاولي و الثانيه و عملت مع مجله اكتوبر المصريه و الاستاذ انيس منصور ، و كتبت في مجله نادي سبورتنج قصصا عن الحب و الحبيبه كانت حديث النادي و المجتمع و تابع الاعضاء كتاباتي في تلك المجله التي راس تحريرها الصحفي القدير رئيس تحرير اخبار اليوم في الاسكندريه البير توفيق الذراع اليمني لموسي صبري احد عمالقه الصحافه المصريه في عهد الرئيس المصري انور السادات و مولف كتاب 50 عاما في الصحافه
تلك المجله كانت تطبع اعدادا و توزع كميات اكثر من اكبر الصحف الاردنيه و هي الرآي ، صحيفه الدوله الاولي و المعبره عن توجه الحكومه .
لذلك كنت متآكدا من النجاح و متطلعا الي امتحان اكثر صعوبه من امتحان “الاملاء “ و لكنها بدايه التعرف علي الاردن من الداخل. ان التحربه المصريه عميقه و ثريه ، مجرد مشاهده القنوات المصريه و الافلام المصريه و الحياه مع المصريين اكبر مدرسه اعلاميه ، فمن غير مصر العظيمه من كل الدول العربيه ضليعا بالاعلام و بمخاطبه الناس و العقل ، و الي يومنا هذل المسلسات المصريه الامثر توزيعا و تاثيرا الي الدرجي ان اللهجه المصريه عمت و شمتل المنطقه العربيه من خلال مشاهده مسلسلاتها و افلامها رغما عن انف مسلسات تركيا و افلام الهند .
عدت الي مكتب الوزيره بسيارتها الحكوميه ذات الارقام الحمراء و لمت نفسي اذ لم اقل لجلاله الملك لو اشتركت في وزارة قادمه بامكانك ان تراني سيدي يوميا كما سآلني ، و لكن عقلي في لحظه سوآل الملك ارشدني الي الشاشه فهي الاسهل و الاقرب ، و شكرت الله و قرآت سوره ياسين.
معالي الوزيره ليلي شرف قالت لي ، ان جلاله الملك الحسين يرغب في رؤيتك علي الشاشه و انت اهلا لتلك الثقه و لك مطلق الخيار ان تقدم البرنامج الذي تريد بمفردك في اليوم الذي تريد و الوقت الذي تريد و سوف نقدم لك الرعايه و الدعم و ننتظر منك شيئا مختلفا و ابداعيا ، او اذ لا تريد ان تبدء بمفردك فلك ان تنضم الي فريق عمل جديد كلف ببرنامج اقتصادي للدوله الاردنيه بتويجات من الملك الحسين ، و حاول معد و مقدم البرنامج المكلف و هو شخصيه اقتصاديه مرموقه ان ينتقي معدا و مقدما معه و لكن كل المحاولات لم تآت بنتيجه و بآت بالفشل ، عموما القرار قرارك ، خذ وقتك في التفكير و عد لي غدا.
و علي باب الوزاره ، لي و هي تقف بمنتهي الادب و ابتسامتها البشوشه تعلو وجهها و حراره يدها تلامس يدي يقوميتها و عروبتها و تالقها قالت بصوت اذاعي ناعم : “اني سعيده بالتعرف عليك و للعلم انا كنت مذيعه في تلفزيون لبنان قبل ان اتزوج من الشريف رئيس الوزرآء الاردني عبد الحميد شرف رحمه الله عليه ، و بالمناسبه صديقتي المذيعه اللبنانيه متزوجه من عمك تيسير طوقان السفير في وزاره الخارجيه الاردنيه ، و لقد تحدثنا عنك بالامس ، فشكرتها و خرجت فرحا الي المنزل “طيرا في السما “ .
بقيت في الفراش طوال الليل ، و الافكار في خاطري تجول عما حدث و امتحان “الاملاء؛، فكلامي مع الملك الحسين لم يمض عليه ٤٨ ساعه بعد ، و لكن كنت متيقنا ان بدايه النجاح و المسؤوليه قد بدآت ، و لقد اخترت ان التقي ذلك الرجل الذي رفض العمل مع العديد و لم يعجب بآي منهم و يبحث عن شيئا متميزا و مختلفا، و ان اقنعه و افوز يثقته.
فهل ياتري سانجح معه ؟ و احوذ اعجابه ؟ و اجيب كل استفسارته ؟ ، و اعتبرت ان هذا هو الامتحان الحقيقي لدخول التلفزيون و عاهدت نفسي ان لم انجح في الحصول علي ثقه الرجل و النجاح في امتحانه فساقدم اعتذاري للتلفزيون و لن اعمل ، معتبرا ان النجاح هو تخطي عقبه هذا الرجل و الذي لم اكن اعرف من هو ؟ و لا هي قدراته ، و لكن قررت ان اتحدث للوزيره في اليوم التالي و ابلغها برغبتي “قبول التحدي “ ، لان كليه فيكتوريا علمتنا الا نستسلم و ان نتحدي و نثبت الافضليه و الا فلا داعي ان نكون رقما صفريا مضافا في اي مجتمع ننتمي اليه . علي ان انفذ تلعيمات الملك و ان “اصدح “.
غلبني النعاس فنمت كما نام شهريار و في عقلي الف قصه و قصه و الف فكره و فكره للتلفزيون و لمقابله هذا الرجل.
ورقتي القادمه ١٣ بما يحمله الرقم من مآخذ و وخوف و تشائم لدي البعض و لكن لم اكن يوما متشائما ، ليس في قاموسي التشاؤم بل الامل و التحدي.