كشف الغطاء / د. هاشم غرايبه

كشف الغطاء
قال تعالى: “لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ” [ق:22].
هنالك توافق بين أغلب المفسرين، على أن المقصود بالخطاب هم عموم البشر، ويتم كشف الغطاء الذي كان يحدد مداركه الحسية المحصورة ضمن قدرات الجسد البشري بعد الموت، حيث تنطلق الروح من تلك المحددات فترى ما كان مخفيا أو محجوراً.
هذا الأمر منطقي مع ما نشاهده في الإختلاف بين قدرات الكائنات الحية، فلو أخذنا النملة مثلا، لها أعين ترى بها، لكن رؤيتها بلا شك مختلفة عن رؤية العين البشرية، ولا شك أنها لا تحيط بكل جسده الضخم بالنسبة لها، وذلك لأن رؤيته من عدمها لا يعني شيئا لها فلا يمكنها الهرب منه أو مقاومته لو أراد لإيذائها، لذلك حدد الخالق لها رؤيتها ضمن ما يهمها، بالمقابل فالأنف البشري أضخم من أنف النملة آلاف المرات، لكن قدرة النملة على الشم أعظم من البشر بآلاف المرات.
كل هذه الشواهد التي يراها البشر، تدل على ضحالة تفكير من يرفض الإيمان إلا بما يراه، فالعلم البشري التجريبي مبني على إثبات ما تتمكن الحواس البشرية من إدراكه، وما وراء ذلك يسمى غيبيات، وعدم تمكن الإنسان من الإحاطة بها ضمن قدراته المحدودة لا يعني عدم وجودها، مثلما أن عدم قدرة عين النملة على الإحاطة بالإنسان لا تعني عدم وجوده، لكن معرفتها لا تكون إلا من مصدر واحد مؤكد الصحة وهو الخالق موجدها، وعن طريق الإخبار الصادق من خلال الأنبياء.
هكذا أراد الخالق الحكيم للإنسان أن يفتح عليه أبوابا للعلم واسعة، فيتعلم بالتجربة والملاحظة ما يهمه في حياته وتأمين عيشه في هذه الدنيا، لكنه حجب عنه معارف لن يدركها في حياته، لأنه أراد له من حياته الدنيوية المؤقتة بأجل محتوم، أن تكون سببا لإسعاده أو شقائه في الحياة الأخرى الدائمة، ولعدالة الخالق جعل الإختيار بين الأمرين بيد الإنسان، ولرحمته أرسل لهم عبر رسله ما يهديهم الى سلوك سبيل الفلاح والفوز، وجعل الخيار بين فسطاطين لا ثالث لهما: فسطاط الخير، وعنوانه الإيمان به وبرسالاته، ومواصفات المنتمي له الصلاح الفردي ونفع الغير وفسطاط الشر وعنوانه الكفر بالله والتكذيب برسالاته، ومواصفاته التحلل من الإلتزام بالتشريعات واتباع الهوى والشهوات بلا قيود.
فأصبحت حياة المرء النيوية امتحاناً لحسن الإختيار، والنتيجة لا تظهر إلا بعد انتهاء الوقت المخصص، أي الموت، ويعني ذلك حتما أنه لا توجد فرصة أخرى، لذلك تكشف أوراق الإجابة، فيرى الإنسان ما كان محجوبا عنه…ذلك معنى “فبصرك اليوم حديد”.
إن أهمية أن يؤمن المرء أم لا لم يجعلها الله القضية الأساسية، فقد أوصى رسله بالبلاغ المبين وترك الخيار للناس وبلا إكراه: ” وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” [الكهف:29]، لأن كل إنسان حين الموت سيؤمن قطعا عندما يرى صدق ما جاء به المرسلون، فمن كان مؤمنا متبعا للهدى سيفرح ويشكر الله على أن هداه للإيمان قبل فوات الأوان، أما من كان كافراً لن ينفعه إيمانه حينئذ ” لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانها لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أو كَسَبَتْ فِي إيمانها خَيْرًا” [الأنعام:158]، وستتقطع نفسه حسرات على ما فاته ولا سبيل للإستدراك، فهو كمن عرف الإجابة الصحيحة بعد تسليم أوراق الإمتحان، هيهات أن يفيده ذلك.
لذلك فحين يكشف الله الغطاء (محدودية الرؤية)، يرى عندها جميع البشر كل الغيبيات عيانا وأولها النار:”يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي” [الفجر:24]، لكن هذه الرؤية ليست للإقناع فقد فات أوان ذلك، بل هي رؤية استحقاق لتنفيذ ما وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى