جدارا … مدينة تتحدى الزمان !
أم قيس ،جدارا ،أثينا العرب ،انتوخيا ،سيلوسيا ،مليكة الشمال ،جميلة الجميلات ،لا أدري بماذا أناديك وبأي وصف وأنت تتربعين على تلة تتسامى فوق الغيم ،فتتوه لروعتك الكلمات وتسافر في عمق الزمان منمنمات الحضارة ولوحات الفسيفساء.
مدينة تحولك إلى شاعر بمجرد رؤيتها،وتسرحك في اتساع تاريخها وتدفق المارين على تربها…
مزيج من الحضارات ،رومانية ويونانية وعثمانية ،ونكهة معاصرة ترسم أجمل وأبدع لوحة لمدينة عريقة ساحرة تتحدى الزمان ….
لست بصدد الكتابة عن تاريخ المدينة ،وآثارها ومتحفها وباحاتها ومسارحها ؛ فهذا بحث استفاض فيه المؤرخون ، وبحر غاص فيه عاشقو المدينة قبلي ،ولكن هي خطرات واختلاجات قلب استحوذتني -وأنا أقف على باب المدينة- قبالة شاهد قبر شاعرها “ارابيوس” مخاطبا ضيوفه بقوله : أيها المار من هنا ،كما أنت الآن كنت ،وكما الآن أنا ستكون أنت ،فتمتع بالحياة ،فإنك فانٍ..
هي دعوة إذن للمتعة تتلقاك وأنت تستقبل جمالها ،عراقتها وإطلالتها على ربوع غالية ،غالية جدا من أوطاننا…..
فعند المساء ومن ربى جدارا.. تتشكل فضاآت خلابة لمرتفعات الجولان ،وبحيرة طبريا .تراها على مرمى حجر ،لا يفصلك عنها سوى خطوط متعرجة يرسمها نهر اليرموك مشكلا حدودا طبيعية بين الدول الثلاث : الأردن وسوريا وفلسطين.
تغص في القلب أجزاءٌ مترامية الاطراف لأوطان سليبة ساكنة في أعمق الوجدان ،بعيدة استبيحت بالظلم والطغيان ،وتمر من حولك طيوف العابرين فوقها ،بسنابك خيلهم وصهيلها ،سافحين دماءهم قرابين من أجل أن تبق جدارا درة تباهي الحضارة.
صحيحٌ أنك حين تسافر إليها تتكبد عناء السفر ، إلا أنك أمام روعتها لا يسعك إلا الخضوع لسحر المكان ،ولتلك النسائم تبعث السكينة والطمأنينة .. وتسلمك آيات الجمال لخضرة سنديانها وبلوطها وسهول رمانها، ووداعة إنسانها وبساطته ورقية.
وحين تغادر ،وتحاول أن تخرج من سحر الشفق الأحمر بزاويته الممتدة من أقصى الأفق ،باتجاه مياه طبريا وأحضان جبل الشيخ والحدود المتاخمة… تثقلك روعة المشهد وإسقاطاته …ترتبك الصورة بغصة عتاب وأسف… فثمة كنوز ما زالت مدفونة تنتظر من يخرجها من مكامنها ،وآثار كانت مندثرة كمعبد زيوس والكنيسة البيزنطية تحتاج لمزيد من التوضيب والرعاية ،كما أن المدينة نفسها بحاجة لتحديث بناها التحتية خدمة للزائزين .
وهنا أوجه دعوة صادقة لصناع القرار في بلادنا العزيزة لإيفاء المدينة حقها،مع تقديرنا للجهود المبذولة ،لننعم بتراثها العظيم ،وليحق لنا أن نفتخر بالإرث الحضاري الذي حبانا الله،وجعله جزءا هاما من ثروتنا الوطنية ومقدراتنا.
*********************************
هامش
ام قيس (جدارا)
مدينة أثرية تقع إلى الشمال الغربي من الأردن تبعد حوالي 120 كم من عمان ،ازدهرت زمن الامبراطورية الرومانية (330— 95)قبل الميلاد،
كانت إحدى المدن العشر الرومانية “الديكابولوس” التي يقع معظمها في الأردن. وتطل على الجولان السوري،وطبريا شمال فلسطين ، ويرسم نهر اليرموك بتعرجاته حدودا طبيعية بين الدول الثلاث.