
تسييس الدين في صفوف المُستغفلين
محمد امين المومني
مِن رُشدِ النهارِ إلى جُنونِ الليل.. ومن حِكمة الصباحِ إلى ضلالةِ المساء.. ومن نُضجِ الأمسِ إلى طيشِ اليوم.. ومن بادئِ الهدى وصولًا لنُهى التيه والميل.. ثمَّةَ انفصامٌ في شخصِ كُلِّ عاقلٍ على ما بدا؛ وعلى الذي يبدو، فبادئ البدء لم يكن كنهايته، وأول الأمر ليس كآخره.
طوالَ عُمري وأنا أُقَلِّبُ صفحاتَ التاريخِ وانظر في أمرِ شيوخِ السلطان، وكيفَ يُسيسونَ دِينهم ودُنياهم وفق أهواء سلاطينهم.. حتى يُصيبوا فضلهم أو يأمنوا من شرهم، ولا أكادُ أجدُ لهم عُذرًا أو بعضَ عُذر، أمَّا اليوم.. فإنني ألتمس لهم كاملَ العُذر ووافر الذريعةِ وعظيمَ التبرير على سوأتهم بعد هذه السوأةِ.. وليسَ هُناكَ سوأةٌ أعظمُ منها.. وبدلًا من أن تُقلِّبَ صفحاتِ التاريخِ.. فأولى لك فأولى أن تُقَلِّبُ كفيَّك على ما أصابَ هذه الأمة المُتهالكة.
الآن تجتمعُ أساطيرُ الأولين.. مع أساطير الأخرين، وذاتُ النمطُ اللعينِ يتكرر من أيامِ المتنبي حينَ قال:
أغايةُ الدين أن تحفوا شواربكم.. يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم
كانت الأمم تضحك علينا وتستهزء بنا، أما اليوم.. فالأممُ تضحكُ.. ونحنُ نبكي ونُستغفَل ونُداس في الداخلِ والخارج، ومن يتكلمُ بلسانِ المتنبي اليوم لرُبما تبدلت نظراتهم إليه، وصارَ زِنديقًا أو مدفوعًا أو مأجورًا.
جعلوا الدينَ أداةً لهلاكنا واستعمارنا، ومدخلًا لضرب أفكارنا، وسببًا في شللِ إدراكنا، وهو بخلافِ ذلكَ جُملةً وتفصيلًا، عجبتُ كيفَ يستقيمُ فيهم الشيءُ وضِده، وكيف يستوي عندهم من يعملُ ومن لا يعمل، ومن يعقل ومن لا يعقل، بل.. وكانَ اللذين لا يعملونَ خيرٌ من أولئكَ اللذين يعمرونَ الأرض، ومن بيدهم أسبابُ حياتنا.
والرائي في اضطرابِ القولِ واختلالِ الفكر من ذلك، عليه أن يعلمَ علمَ اليقينِ أن مأكله ومشربه وملبسه وانتقاله واتصاله هو بيد غيره، فكيف يرى الذي هو أدنى نفسه سيدًا على من هو أعلى..؟ وكيف يرى الذي لا يمتلك عناصر القوة نفسه قويًا على من يمتلكها..؟ فماذا يحدثُ لو قُطِعَ عنه نزرٌ يسيرٌ مما لا يملك..؟
إنَّ أصحابَ العمائمِ يدعوننا أن نعبدَ اللهَ ولا نعمل، والله علمنا بأنَّ العملَ عبادة، ويدعوننا أن نكونَ فقط أصحابَ فكرٍ بلا عمل، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقولُ: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فاليد التي تُعطي خيرٌ من اليد التي تأخذ، ويدعوننا أن نكونَ أصحاب رسالاتٍ ليهتدي بنا الآخرين ويعملون فقط من أجلنا حتى يكتمل فكرنا مع عملهم، والله تعالى قد استخلفنا لعمارةِ الأرض، يدعوننا أن لا نعمل ولا نصنع ولا نزرع والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها).
الآن أدركتُ مغبةَ ما تُعانيه أُمةُ العُربِ من حياة ضنكى، وتهاونٍ في شتى منطومةِ حياةٍ بائسةٍ تجعلنا موتى على قيد الحياة، ولو بحثتم في تقارير المنظمات الدولية المتنوعة بمجالاتها لرأيتم كيف نتذيلُ الترتيبَ وكيف نكون في مصافي الأمم، وكيفَ يستخفونَ بعُقولنا ويُدبرون أمرنا ويُسيسون حياتنا..!
وفي ذاتِ النسقِ فإنهم يدعوننا بملئ إرادتهم بأن لا نعمل، وهم من يعملونَ على تجهيلنا، والدينُ منهم بريءٌ، ولا أنقد دينًا ولا مِلَّةً ولا فِكرًا.. إنما أنقمُ عليهم فعلتهم وجهلهم، وقد أخرجوا خبيثًا من طِيب، وجهالةً من علم، وبطالةً من عمل، ودمارًا من عمارةِ الأرض، ومن خيرٌ من قائلٍ: ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا.. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا).
الآنَ يجبُ عليكم أن تتوقفونَ بعد الذي قيل وتسألون أنفسكم، ما المغزى وراء ذلك الكلام، ولمصلحةِ من؟.. ولماذا يُرادُ لهذه الأمة أن تبقَ مشلولةً مُمزقةٍ مُقطعةَ الأركانِ ومُتهدمةَ البنيان.. ؟
لستُ مُتاكدًا من الإجابةِ بقدرِ ما نحنُ مُتأكدين منه أنه يُراد لنا أن تكونَ بلا فكرٍ.. بلا عملٍ.. بلا قوةٍ.. يكونُ من أهم أولوياتنا رغيفُ خبزٍ نواربُ به جوعنا.. ولو حصلنا على أدنى مُقوماتِ الحياةِ (وهي حقٌ أساسيٌ بطبيعةِ الحال).. سنتطلعُ إلى ظُلمهم وجورهم واستغفالهم لنا.. حينها سيكونون في خطر.. ومن مصلحة الذي هو أعلى أن يبقَ الذي هو أدنى بلا فكرٍ ولا عملٍ حتى يضلَّ في وهنٍ وضعفٍ كبيرين.. الآن تُدركونَ كما أدرِكُ أن مصائبنا ليس إلا من عند أنفسنا، ولا علاقة لعدونا بما يحدث لنا، فالسواد الأعظم منها من داخلنا وليس من خارجنا.
إنَّ هذا الدينَ لأقومُ وأسلمُ من أي تُضربَ أركانه أو تُهدمَ بُنيانه.. وإنَّ كماله لأقوى وأشد من أساطيرهم الأولين.. وأساطير الأخرين.. ولا بد لكم من نهضةٍ علميةٍ فكريةٍ في شتّى النواحي مرهونةٍ بعملٍ وصُنعٍ وفعل، وإلا سنبقى مذلولينَ خانعينَ خاضعينَ صاغرين، ولستُ بعالمٍ ماذا كانَ سيصنع سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو بينَ أظهرنا حينَ يسمع هذا القول والتوجيه.
فواللهِ لا العدوَ أخشى عليكم.. ولكن أخشى أن تبسطَ الدنيا عليكم بلا عملٍ أو صنعٍ فوقَ سوء أحوالكم فتهلكون كما هلكَ الذينَ من قبلكم.. فما أحوجكم إلى العمل والصُنعِ والقوة.. فإنها أقومُ من البطالة، وأرحمُ من الضعف، وأسلمُ من دمار الإعمار..فوق دمار الأفكار.. وكساد الأمصار.
وختامًا.. ليسَ لنا إلا أن نجهلَ جهلهم ونُقَّبحَ قولهم ونُسَّفه حِلمهم..
ولكن.. هل من مأجورٍ أو زنديقٍ أو مدفوعٍ كالمتنبي، يخرجُ عن أهوائهم ويُخَّلد جهلهم ببيتٍ شعريٍ يُوثَر عن فداحة حالنا وقِلة حيلتنا وهواننا بين الأمم..؟
Mo.almom16@gmail.com