تأملات قرآنية

تأملات قرآنية
د. هاشم غرايبه

يقول تعالى في الآية 3 من سورة النساء: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ”
كنت استمع الى حديث أحد علماء الدين، وأدهشني قوله إن تعدد الزوجات جاء بالأمر الإلهي:” فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ “، ويعتبر أن هذا مما قضى الله به:” وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ” فلا يجوز عصيانه.
لو كان هذا الحديث صادرا عن رجل من العامة لاعتبرناه رأيا لذي إربة، لكنه لا يجوز أن يصدر عن عالم متفقه يعرف أن اجتزاء نص من آية هو تحريف لكلام الله، وهو أعظم الكبائر بعد الشرك، وذلك لأنه يُخرج النص من سياقه وقد يقلب معناه، تماما مثل من يقرأ قوله تعالى:”فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ” ويسكت عن إكمالها بـالآية التي تليها: “الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ “.
آية سورة النساء هذه هي الوحيدة التي أباحت التعدد، ومعروف فقهيا أن الإباحة ليست تحليلا مطلقا، بل مقيدا بالشرط الموجب له، لذا ولأنها شرطية فيجب أن تقرأ كاملة.
تبدأ الآية بأداة الشرط (إن) وهي جازمة لذا فتحتمل الإبهام، أي إمكانية حدوث فعل الشرط أوعدمه، فهي لم ترد بصيغة :(إذا) التي تفيد حتمية وقوع الفعل لكن بشرطه.
للتوضيح، فقد جاءت:(إن) و(إذا) الشرطيتان في العديد من الآيات الكريمة، ودائما ما كان ورود إحداهما هو الذي يعطي القطعية في الدلالة، فمثلاً جاءت:”وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا “وليست (وإن) لأن التحلل من الإحرام أمر مؤكد وقوعه، وجاءت:”وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ” وليست (وإذا) لأنه قد لا يكون المدين معسرا.
نستنتج أن جواز التعدد قد جاء مشروطا وليس على إطلاقه كما اجتهد ذلك الشيخ هداه الله، والشرطية هنا مقيدة بثلاثة قيود :-
الأول: قيد جواز عدم التحقق أصلا لفعل الشرط، والذي دل عليه استعمال (إن).
الثاني: قيد الخوف من عدم الإقساط، بمعنى أنه إذا تحقق الإقساط في اليتامى، فلا يتحقق جواب الشرط الوارد في عبارة (انكحوا).
الثالث: أن الحالة مرتبطة بوجود أرملة تقوم برعاية الأيتام، ولم تأت مطلقة في جميع الأحوال، فإن لم يكن هنالك أيتام لا تتحقق رعايتهم بغير الزواج، لم يعد لهذه الرخصة من مبرر.
ولأنه تعالى أعلم بخلقه، ويعرف ولع الذكور بالنساء، فقد أراد أن يحدد ما أجازه لهم حتى لا يشتطوا في استعماله، فعاد وأكد باستعمال أداة الشرط وفعلها ذاتها مرة أخرى: “فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً”، لكي يدلهم على تساوي الحالتين: المجيزة (عدم الإقساط في اليتامى) مع المانعة من استعمال الرخصة (عدم العدل بين الزوجات).
ثم أضاف لتأكيد التضييق في استعمال هذه الرخصة إرشادا رفيقا بأن ذلك يحتاج نفقات قد تلحق بهم العوز.
المعروف للجميع أن الحكم الشرعي كما يُعرّفه علماء أصول الفقه هو خطاب الله تعالى، المتعلق بأفعال المكلفين، اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً، بمعنى ما اقتضى الشرع فعله وهو الواجب والمندوب، أو تركه وهوالمحرم والمكروه، أو التخيير بين الفعل والترك وهو المباح.
فأي حكم من الأحكام الخمسة ينطبق على التعدد؟
بما أن تعدد الزوجات رخصة يجوز الأخذ بها أو تركها فينطبق عليها حكم المباح، أي يجوز الأخذ به إن تحققت الشروط التي أسلفنا، مثله في ذلك رخصة الإفطار في رمضان أو قصر الصلاة.
الفقهاء توسعوا بالقياس على الإضطرار، بأن أباحوا التعدد في حالات محددة مثل مرض الزوجة أو عدم إمكانية الإنجاب أو ازدياد عدد الإناث على الذكور لدرء حدوث مشكلة مجتمعية.
لكن القاعدة الشرعية “لاضرر ولا ضرار” تحكم الحالة، فمن باب عدم الإضرار بالزوجة، يجب أن يتم ذلك بموافقتها، وعندها لا يصبح التعدد ظلما لها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى