تأملات رمضانية

#تأملات_رمضانية
د. هاشم غرايبه

في مدينة أمريكية، كان ثمةَ جاران صديقان من أصول عربية، أحدهما كان مؤمنا معتنقا #الإسلام، فيما الثاني لا يعبأ بالدين وينتمي الى فئة (اللا أدري)، والذين لا يشغل بالهم مسألة وجود الخالق، فيحاول الأول إقناع الثاني بوجود الله، لكن جهده كان يضيع عبثا، إذ كان جاره يعتبر أن الإيمان جهل وتخلف، الى أن خطرت له فكرة.
أخذ يضع له على الباب سلة من الفواكه في كل يوم من غير إشارة الى المرسل، يأخذها جاره وهو يتساءل عمن أرسلها له، لكنه لم يعرف، ولم ينفع ترصده في اكتشاف المرسل، بعد بضعة أيام حكى لصديقه عن ذلك وطلب منه أن يساعده في المراقبة لعله يعرف المرسل، فقال له: ولماذا تشغل نفسك طالما أنه لا يطلب منك مقابل كرمه شيئا، فأجابه: لا أبدا فذلك يشغلني، أريد أن أعرفه لأشكره على الأقل، فقال له: حسنا، إذا كانت سلة فواكه تريد أن تتعرف على مرسلها لتشكره فكيف لا يهمك معرفة من أعطاك البصر والسمع وكل شيء مفيد.
هنالك تباين كثير بين عقول البشر، رغم أن آلية التفكير والمحاكمة العقلية عندهم واحدة، ربما أن تشابه الأسس لا يعني دائما تماثل المخرجات، وذلك لتدخل عوامل متباينة منها الأنانية والأطماع والشهوات والأهواء، والتي هي مثل الرياح التي تدفع السفينة الشراعية، لو ترك ربانها للريح أن تدفعها باتجاه هبوبها، لربما انحرفت السفينه أو سارت بعكس المبتغى، لكن إن كانت إرادة الربان الوصول لجهة محددة، لبذل جهداً قد يكون شاقاً في التحكم في الدفة لتحقق التوجه المراد.
من هنا يظهر تمايز البشر، فهم صنفان: منهم من يُحكم الإمساك بالدفة تماما، ومنهم من يتركها ويسلم قيادها للريح تأخذها حيث تشاء، وبين هذا المُحكِمُ الضبط وذاك المُفلِت، درجات عديدة وصنوفا من البشر متباينة.
هكذا نفهم أن التدين في أصله انضباط، وقلة الدين انفلات، وبما أن ذلك التفلت من الإلتزامات، والتنصل من أعبائها أمر لا يُشرّف المرء، لذا فهو يبحث عن توصيف لحالته تلك بصفة غير مذمومة ولا مستنكرة، فيسمي الإنفلات: إنعتاقا وتحررا.
حديثا بالغ هؤلاء المتفلتين في التوصيف المتطرف فقالوا بأنهم تنويريون والفريق المقابل هم ظلاميون.
سأفحص هذا القول بمعايير الموضوعية والتطابق مع الواقع:
التنوير فلسفة ظهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر، وكانت تعني التفكير الحر من غير الخضوع لتأثير الآخرين، وأول من ابتدعها كان الأب “ميسلي” عام 1725 في كتابه “الوصية”، ولم يكن يعني إطلاقا أن الدين عائق أمام تفكير الإنسان في بحثه عن حلول مشكلاته.
أنصار العلمانية التقطوا الفكرة، ومن أجل التخلص من هيمنة الكنيسة واحتكارها للتفسير اللاهوتي اعتبروا الإيمان بالله حجرا على التفكير، وقالوا بما أن التفكير الحر حاجة أساسية لحل المشكلات لذا يجب إبعاد الدين عن التدخل في الأمور العامة.
بالطبع لا يمكن إثبات هذه الفكرة، فكيف يمكن للإيمان بوجود خالق أن يمنع المرء من البحث والإختراع؟ وأين هو الدليل على ذلك غير تصرفات الكنيسة التسلطية في القرون الوسطى والتي لا تستند الى تعاليم الدين، بل هي تناقضه، إذ أن تعاليمه مثبتة في كتاب الله، وتحث على إعمال العقل في التفكير الحر ضمن أقصى قدراته.
ها هو الدين جليا واضحا في كتاب الله، من يمكنه إيجاد دليل واحد على ذلك الزعم المغرض؟، وكيف يكون ظلاميا من يتبع القواعد الأخلاقية والسلوكية التي جاء بها؟، وكيف يكون الصلاح ظلامية وجهلا؟، وبالمقابل بأي معيار منطقي يمكن اعتبار الخروج على الضوابط السلوكية الأخلاقية وفعل الخيرات التي تحققها تشريعات الدين ..تنويراً!؟.
“قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ” [عبس: 17].

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى