بين المالج والمسطرين / يوسف غيشان

بين المالج والمسطرين

جالساً على لوح خشبي مدلى من فوق حائط المدرسة، لم يأبه فرج الميركاني بكل الضجيج الذي من حوله، مرتدياً طاقية كاوبوي غامقة اللون وعتيقة، كان يقوم بتكحيل حجارة الدير بمادة سوداء، حيث يعمل في مجال القصارة، وفرج هذا معروف في القرية، فقد غادرها قبل أكثر من عشر سنوات على دابة وصولاً إلى سواحل بلاد الشام، حيث سافر بالباخرة إلى أمريكا اللاتينية، في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. بالتأكيد استمرت الرحلة لأشهر عدة. من ذلك الوقت، انقطعت أخباره عن الأهل لأكثر من عقد، حتى اعتقد الجميع أنه مات، وربما قرأ بعضهم الفاتحة عن روحه المغامرة.
في واحدة من السنوات الماحلة، التي غزا فيها الجراد المنطقة ملتهما الأخضر واليابس، وصل فرج الغائب إلى بيت أهله، فاستقبلوه بالأفراح والليالي الملاح والزغاريد. ضاعف من لهفة الاستقبال وسخونته أن مستر فرج، إضافة إلى طاقية كاوبوي قاتمة تعتلي نافوخه، كان يحمل صندوقاً خشبياً متوسط الحجم، مغلق بثلاثة أقفال نحاسية تتدلى من أطرافه بكل أبهة.
صارت عبارة “رجع الميركاني”، ويقصد بها: “عاد الأميركاني” مالوفة في البلدة بأكملها، طبعاً؛ فقد استقبله الوالد والإخوة بفرح شديد، وتيقنوا أن الفرج جاء، وحلّ بينهم إلى الأبد مع فرج شخصياً.
كانوا يسمعون الخرخشة وصوت ارتطام المعادن ببعضها ،عندما ينقل فرج الصندوق من مكان إلى آخر، فيحلمون بالذهب الذي سيطعمهم اللحم والدهن والعسل. بالمناسبة، كان فرج لا يترك صندوقه قط، بل كان يحمله معه أينما ذهب. حتى لو دخل إلى بيت الخلاء، كان يأخذ الصندوق معه، ويخرجه معه.
انتشر الخبر، كما قلنا:
– أجا فرج ومعه الفرج.
على عادة أهل القرى والمدن الصغيرة، فقد صاروا يقيمون لفرج المآدب لعله يتذكرهم بالخير حينما يفتح صندوقه مثلث الأقفال. لم يكن فرج يرفض أي عزومة؛ فأكل وشرب في بيت المختار مروراً ببيوت الحارة كلها، والكثير من بيوت البلدة في الحارات المجاورة، حتى أن أضعفهم حالاً ذبح دجاجته الوحيدة، وأولم لفرج العائد من الغربة بصندوق مثلث الأقفال.
كان فرج يحمل صندوقه في كل مناسبة ويرفض أن يجلس على المفارش، بل كان يجلس مرتاحاً ومبتهجاً على صندوقه، وكان الناس يرقبونه بإعجاب شديد في انتظار أن يفرج عن المفاتيج وتنفتح بوابة “علي بابا” أمامهم.
بعد أن قامت القرية بأكملها بواجباتها تجاه فرج، انتظر الناس حفل الافتتاح، لكن فرج لم يكن بالوارد، بل كان يجلس مرتاحاً على صندوقه الخشبي الممهور بالأقفال الثلاثة. وقد حاول والده وإخوته إقناعه بفتح الصندوق، فقد أكلت الناس وجوههم، لكنه رفض بكل إباء وسؤدد.
ومن دون أي تنسيق، وبعد أن طفح الكيل، وبينما الناس يجلسون بهدوء في بيت والد فرج يتحدثون حول أحوالهم السيئة وضيق ذات اليد عند الجميع وانقطاع المطر.. كان فرج يجلس معهم فوق صندوقه بكل فرح وسعادة؛ هجم أولاً والد فرج على الصندوق، وتبعه إخوة فرج، ثم الأقرباء، حاول فرج المقاومة، لكنه لم يستطع شيئاً أمام هذا الشلال البشري الجائع.
وقف فرج بعيداً، بينما قام الشلال البشري بكسر الأقفال، وفتح الصندوق عنوة. نظر الجميع إلى داخل الصندوق فعرفوا سر الخشخشة والطرطقة: كان في الصندوق عدّة قصارة (مالج، مَسْطَرين، متر، ميزان، خيط).
نظروا إلى حيث يقف فرج، نادوه إليهم، جاء مدندلاً رأسه، وقال لهم بأن الحياة كانت صعبة عليه في بلاد الغربة، ولم يستطع أن يجمع قرشاً واحداً، لكنه تعلم مهنة القصارة ومهر فيها.
هكذا قضى فرج بقية العام وهو يقصر أبيار (جمع بئر) أهل القرية وبيوتهم مجاناً في انتظار عام جديد أكثر خيراً، وذلك بدل المناسف التي أكلها هنيئاً مريئاً. ثم عاد إلى مهنته التي تعلمها في بلاد الغربة.
ghishan@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى