معاملات حكومية / د . خالد غرايبة

ذهبت قبل فترة الى احدى الدوائر الحكوميه لإجراء معاملة حكومية رسمية والواقع انني اصبحت اجهز نفسي بكمية كبيرة من الصبر وطول البال قبل ذهابي تثقل كاهلي احيانا.
تدخل الى المبنى المستأجر والذي توشح واجهته الحجريه رفوف من الغبار والاوساخ حولت حجره الابيض الى اللون البني المثير للكئابة ثم تتوجه الى القاعة الرئيسة ذات الارضية القاتمة والتي تحوي عددا من الكراسي المتناثرة والمختلفة الاشكال والالوان وفي سقفها مروحة يعلوها كميه من الغبار الرطب تشعرك انها ستمطر عليك قطرانا وترتكز في زاويتها سلة مهملات صغيرة تصيح من كثرة مافيها من القاذورات. اما الغرف فتجد فيها اثاثا قديما يتناثر في ارجائها وستائر ممزقه تغطي جزءا من شبابيكها ويجلس فيها موظفون “اقدم” من البناء واثاثه بذقونهم غير المحلوقه وسجائرهم التي تشاركهم الكلام ووجوهم المتجهمه ولسان حالهم يقول: “من الافضل ان لا تدخل”.
وفور دخولك تتوجه الى الاستعلامات (خدمات الزبائن) حيث يجلس موظف خدمة العملاء بوجهه العبوس على كرسي دوار صغير الحجم ممزق الجلد ويظهر الاسفنج من طرفيه، فتخاطبه من خلف الزجاج الذي شوهت نقاءه أثار الأيدي لتسأل اين تذهب لتخليص المعامله، فيطلب منك الرقم الوطني بصوت منخفض يجعلك تضطر لوضع اذنك على الزجاج لتسمعه فتخرج بطاقتك وتعطيه اياها من فتحة الزجاج السفليه ، فيقوم بعدة “طقطقات” على جهاز الكمبيوتر ثم يقول لك بمهنية عالية وواثقة: غرفة رقم “كذا” بينما هو يدير جسمه على الكرسي الدوار ليكمل الحديث مع صديق له يجلس بجانبه ويحتسي معه القهوة في كؤوس عملت اصلا للشاي.
ثم تذهب بخضوع كما “امرك” الموظف الى الغرفه رقم “كذا” فيضع الموظف ملاحظة على الورقه ويطلب منك ان تذهب الى غرفة اخرى. ويستمر تجوّلك من غرفة الى اخرى، والتي عادة ما تكون في طوابق مختلفة، لجمع التواقيع الى ان تصل الهدف وهو المكان الذي يتم فيه دفع الرسوم ، فتجد طابورا طويلا لتقف فيه وعرقك يتصبب بعد تلك الجولات بين الغرف والطوابق الى ان يأتي دورك في الدفع عند المحاسب الذي يقبض الرسوم بعصبية وكأنه يقول لك “هات مانتو ماكلين الدنيا”.
*********”********************************
اعتقد ان هناك عدة مشاكل اساسية في معاملات الدوائر الحكومية اولها: ان تصميم العمليات وادارتها لا زال يتبع “النظام العثماني” في الادارة؛ اذ لم تتطور منذ نشأة الادارة الحكومية في المملكة حتى مع دخول الحاسوب اليها والذي اصبح عبئا زائدا على الموظف بدل ان يساهم في تسريع العمل وضمان دقته، ولازال التعامل الرسمي ورقيا بامتياز.
وثاني هذه المشاكل هي الحالة النفسية للموظف حيث يشعر ان بينه وبين المراجع عداوة ويحاول بكل السبل تعطيل معاملته او تعجيزه اضافة الى شعوره السادي بالسعادة عندما يتم تدفيعه اكبر قدر من المال والضرائب. وباعتقادي ان ذلك عائد الى شعوره بالظلم تجاه الدولة لتدني راتبه ولانها جعلته يمارس عمله في مكان قذر يخلو من اي سبل الراحة او الادوات التي تساعده على انجازه العمل بكفاءة؛ وبالتالي فيقوم بتفريغ حنقه على الدوله في ذلك المواطن المسكين.
هذا فضلا عن امور ثقافية كثيرة مثل العلاقات الشخصية للموظف والتي تلعب دورا مهما في ادائه لعمله والتي فشلت الدوله في معالجتها، اضافة الى غياب التدريب المستمر لموظف الدولة على خدمة المراجعين حيث يتلقى الموظف تدريبه الوحيد من زميله الاقدم الذي يقنعه ان العيب في المواطن وليس في النظام الاداري او الموظف وان عليه ان يعامل المراجع بخشونه حتى لا يتمادى في طلباته.
من العيب ان تظل دوائرنا الحكومية بلا تطور على مدى عقود ومن العيب ان يظل المواطن يشعر انه كالشحاد على ابوابها في الوقت الذي يقوم هو بدفع رواتب موظفيها.
لقد انتهى عهد القاء اللوم على المواطن في الفوضى والبروقراطية لان مسؤولية ذلك هي مسؤولية الدولة وجهازها الحكومي اولا واخيرا ومن حق موظف الدولة والمواطن على حد سواء ان يأخذا حقوقهما التي يستحقانها.
ودمتم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى