الوطن في قصيدة غربة / وائل مكاحله

الوطن في قصيدة غربة / وائل مكاحله

في ليالي الغربة أشعلنا شموع التضامن مع أحداث لم نشهدها في الوطن.. أذكر بكائي يوم أن مات الزعيم الأب، وفرحتي بأول هدف أحرزناه في مباراة أبعد عن مجرياتها آلاف الأميال، أذكر نقدي لحكومة لم أتأثر شخصيا بقراراتها، غضبي من مسؤول فاسد لم أعرفه، فخري بفوز مغنية حمقاء لمجرد أنها تلفحت بعلم بلادي، أغنية سخيفة عزفت ألحانها فوق ضلوعي كقوس كمان، غنيت جميع أغنيات ثمانينياتنا الجميلة في الإذاعات المدرسية، أحرزت الدرجات العليا كرياضي طمح إلى ميدالية ذهبية تنسب إلى وطنه، حاولت جاهدا أن أبدو كمثال جيد لأبناء بلادي.. فشلت لكني على الأقل حاولت..!

في ليالي الغربة كنا نناجي أوطاننا شعرا ونثرا وقصصا لم نصدقها حتى نحن.. لكنها كالكذبة البيضاء التي يستحقها نبض الحنين إلى الجذور، وطني لم يعرف القصص القصيرة على لساني أبدا.. كنا نروي القصص حتى الصباح لتستحيل روايات طويلة تنوء بحروفها الكتب، كنا نرسم على الرمال خط المسير المتوقع وقت العودة.. من هنا سنمر بمدينة ساحلية ساجية على البحر، سنشرب قهوة الصباح ونمضي نأكل الدروب أكلا، سنمر بمدينة أخرى لا تقل عن تلك سحرا.. هنا سنتناول طعام الغداء.. وهناك نشتري زجاجة ماء.. وفي تلك نتوقف لشؤون منعنا عنها الحياء، نتوقف على حدود لا نعترف بها.. فخرائط الوطن في الصدور بلا خطوط طولية أو عرضية أو متموجة، لكننا مجبرون على اللعب بقواعد الفرقة التي فرضها استعمار لم يتوقف عندنا طويلا.. لكننا إلى الآن متوقفون عنده..!

حين بدأت الرحلة وبدأ العندليب يترنم بخوفه من المشوار الذي ابتدى.. لم ترق خططنا لسائق الحافلة العجول، لم يتوقف لنحرك دماءنا المتجمدة في عروقنا يلهبها الشوق.. حتى قطعنا جميع البلاد التي ذهبت مع خططنا أدراج الريح، على الطريق أشرقت الشمس ألف مرة حتى فقدت أحداقي جماليات الشروق، على الطريق استطالت الليالي حتى لعنت في سري الصحراء والمسافات.. والحافلة التي جاءت بي أول مرة من ذات الطريق، لا بد أن شهرزاد كانت مسافرة مع شهريار على متن حافلة بائسة كهذه.. فتفتق ذهنها عن قصص ارتجلتها لتزجية الوقت لا خوفا من سيف “مسرور” المتأهب لجز أعناق النساء!!.. ولا بد أن دهرا كاملا مرّ بي على مقعد يزقزق من الصدأ كعصفور يعاني إرهاصات الحرية الوليدة، قبل أن أحط رحالي أمام ضابط متجهم يطالبني بإبراز جواز السفر..!

– من أين؟
– من الغرب.
– إلى أين؟
– إلى الشرق.
– وبينهما؟
– خطة لقضاء أيام قليلة في بلادك.
– إلى متى؟
– إلى أن يأذن الشوق بالرحيل.
– اللي بعدو…

هكذا كنا كما الأغنام في ميناء تنزيل مزدحم.. حتى خيل إليّ أن الختم في يد ضابط الحدود يتجه نحو ظهري لا إلى جواز السفر.. ربما نسيت أن الضابط عربي آخر!!

أخيرا رست سفينتي على رصيف يبدو حزينا.. ألست في بلادك؟.. إبتسم إذا يا ابن المحظوظة فأنت في نعمة لا يدركها إلا غريب مثلي، ظللت محافظا على رباطة جأشي حتى توقفت أمام ضابط الوطن، دقق هذا جواز السفر ثم نظر إلى وجهي.. ثم دقق الجواز ثانية ثم تفحص وجهي، رفع الجواز ليقارن وجهي بتلك الصورة الباهتة.. لماذا تجهم وجهه؟.. هل صورتي تجلب الكآبة إلى هذا الحد؟!.. أخيرا سألني في آلية:

– من أين؟
– من الغرب.
– إلى أين؟
– لقد وصلت!
– هل ستعود؟
– بالطبع لا!

نظر إليّ نظرة خاوية لا معنى لها.. وشعرت بالختم في يده يتجه إلى وجهي لا إلى جواز السفر.. ربما لم أفهم أن الضابط غريب آخر!!

وللحظة بدوت على باب وطني كتلميذ روضة تركه أبواه على باب مدرسة لا يعرف عنها شيئا، يرتجف من هول الغربة عن الغربة.. ينظر إلى أمه من بعيد يرجوها بدموعه الحرّى أن تعود في التو لتأخذه، فتجيبه أمه بدمعة حنية لسان حالها يقول: “سرعان ما ستعتاد يا صغيري.. فلا تخف”…..

وها أنا يا أمي بعد كل تلك السنوات لم أزل واقفا على باب الوطن، أمد يديّ دامعا لأول عابر سبيل يأخذني بعيدا عن خوفي وشعري ونثري.. وقصص كانت كالكذبة السوداء التي لا يستحقها نبض الحنين إلى الغربة..!

رباه.. كم تأخرت تلك الحافلة الصدئة…!!
_____________________________

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى