المضافة / د . خالد غرايبة

المضافة
لقد كان ربيع العام ١٩٨١ يُنذر
بتحولات اجتماعيه وعمرانية كبيره في قريتنا اذ ان عملية واسعه لفتح وتعبيد الشوارع كانت قد بدأت من اجل استيعاب التمدد العمراني والزياده في عدد السكان و عدد السيارات.

اتذكر جيدا منزل جدي في القريه قبل تلك التغيرات فقد كان بحد ذاته مجتمعا متكاملا مكتيفا ذاتيا يحوي بين جنباته الحياة بكل حركتها والقها وتعبها.

كان ذلك المنزل يتكون من مجموعة من الابنية تلتف حول حديقة المنزل؛ فكانت غرف نوم (بيوت) الاخوة المتزوجون (جدي واخوانه) تصطف بجانب بعضها وتتساوى في مساحتها وارتفاعها ويقابلها مخزن الحبوب وغرفة الدجاج التي يتقدمهما “الخم” والفرن الذي كان يقبع بزاوية المنزل البعيدة والمرحاض الذي يقبع في الزاوية الأخرى ثم زريبة الغنم والدكان التي كانت تجاور بوابة المنزل الكبيرة المصنوعة من الحديد الرقيق والتي يجلس على طرفيها حجران طويلين يستعملان للجلوس صباحاً وكأنهما مقعدين فاخرين يشعر من يجلس عليهما بالسلوى خصوصا عندما تفوع رائحة الصباح النقية الممزوجة بعبق الزهور والممزوجة بأصوات اهل الحي.

اكثر ما كان يثير اهتمامي في ذلك المنزل هو المضافه . فهي بناء مستقل من الحجر والطين سقفها من القصيب وجسور الحديد ولها باب خشبي ليس بكبير ولكن يعلوه قوس حجري جميل وبجانبه شباك ذو شبك حديدي انيق برغم بساطته يطل على العريشة التي تتقدم بناءه تعطي من يدخل المضافة مدة للاستمتاع بجمال وجه البناء وتعطي من بداخله الفرصة للقيام والترحيب بالضيف القادم اليه.

مقالات ذات صلة

تدخل اليها فتشتم رائحة اثاثها المكون من فرشات الصوف العالية والبساط الاحمر الذي يغطي ارضيتها غير المبلطه. ويواجه بابها شباك صغير في الجهة الغربيه للبناء يدخل من خلاله الهواء النقي القادم من الوادي باندفاع شديد يؤدي احيانا الى دفع دفة الباب بقوة تخرج صوتا عظيما اذا لم تكن مربوطة باحكام الى الجدار بذلك الخيط الصوفي.

وتجد على يمين الباب المهباش يجلس كالشيخ الوقور على الارض وفوقه كوة في الجدار لها باب خشبي يوضَع فيها بعض الحلوى كالراحة السوريه او بعض التمر والقهوة. وفي الواجهة الاخرى تجد كوة فارغه كانت تؤوي “البنوره” التى تم الاستغناء عن ضوءها بعد دخول الكهرباء الى البلده حيث تم استبدال جمالها الفاءق الانوثه “باللمبه” الكهربائيه ذات الاسلاك البشعه التي شوهت جدران المضافه المطليه باللون الاخضر الباهي.

كانت المضافه جميله وهي فارغه واجمل عندما يجتمع فيها الرجال مساءاً حيث يتحدثون حديثهم البسيط عن احوال حياتهم البسيطه التي لا تخلو من الطرفه ولكن بادب جم واحترام شديد لبعضهم البعض ولكبيرهم ان حضر.

لقد كان باب المضافة مفتوحاً دائماً لابناء العمومة الراغبين في السهر والسمر او لقتل بعض الفراغ قبل الظهيره عندما تكون الزراعة في إجازة، وكانت ايضاً بمثابة النُزُل لضيوف البلدة الذين ليس لهم مكان محدد يذهبون اليه ولموظفي الدولة وجباة الضرائب وحتى رجال الامن الذين كانوا يأتون القرية لمهمات رسمية، والاهم من ذلك انها كانت مقهىً او مطعماً لاؤلئك الفقراء الباحثين عن بضعة ارغفة وصحن من اللبن يسدون به رمقهم.

كما كانت المضافة المكان الأمثل لفض الخلافات بين الاقارب وكانت ملاذاً لأولئك الباحثين عن مأوى اذا لفظتهم بيوتهم او قبائلهم لأن عنوان تلك المضافة هو الأمان والدفء وتوفر الزاد والقهوة والاهم من ذلك الاحترام وحفظ ماء الوجه لكل من يدخلها أو يلجأ اليها.

لقد كانت المضافه مدرسة يتعلم فيها الصغار الحكمه والمجامله والرجولة وقبل ذلك كله؛ الاستماع، اذ انه من العيب ان ينبس الصغار ببنت شفه في حضور الكبار. وكانت ايضاً عنواناً للشرف والكرم والكرامة وعظمة النفوس اذ إن تكوينها المعماري والوظيفي لم يكن يعني سوى تلك القيم الاصيلة المستمدة من التاريخ والموروث الحضاري.

في بداية الثمانينيات أتى الشارع الاسفلتي عديم الذوق، اسود اللون، كريه الرائحه والخالي من الاحساس على المضافه فشطرها شطرين وحولها الى ركام حزين ثم تم ازالتها بالكامل. أذكر تماما ذلك الركام الحزين الذي رأيته بأم عيني وكأنه ركام احاديث ذكريات من جلسوا فيها او اخلاقهم او شيمهم او قيمهم وقد تبعثرت وتناثرت وزال اثرها.

لقد لحظ الجميع اثر ذلك في نفسية جدي ربما أكثر من مما أثرت فيه وفاة ابيه؛ اذ انه شعر انه فقد وطنه ولم يعد يهنا في اقامته بالبيت وأصبح يفضل قضاء معظم وقته في ارضه التي ظل يزرعها الى قبل وفاته بعدة سنين.

لقد شطر الاسفلت، مع شطره للمضافه، كل اواصر المحبة بين الاصدقاء والاقرباء اذ اختفى من حياتهم ذلك الكيان الذي كان يجمعهم ويعلمهم ويشعرهم بالامان والدفء.

هُدمت المضافات والبيوت القديمه ووجدنا لها بدائل اسمنتيه حديثة للسكنى، ولكن السؤال: هل وجدنا بدائل حديثه للقيم والاخلاق التي هدمت معها.

من يمشي في شوارع مدننا وقرانا الان يجد ان الناس تسكن في عراء اخلاقي وقيمي.

ودمتم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى