الفصل بين الدين والدوله / د. هاشم غرايبه

تكاد الفكرة القائلة أن العلمانية كانت وراء الثورة التقنية في أوروبا ، تكاد هذه الفكرة أن تصل لدرجة اليقين عند كثيرين ، لم يكن السبب لتلك الحالة اليقينية إثبات علمي أو تعليل منطقي ، بل هو الضخ الإعلامي الجائر لتعبئة عقول البشر بتلك الفرضية ، حيث أن معتنقي العلمانية يسيطرون على وسائل الإعلام بشكل مطبق . لو استعدنا التسلسل الزمني لصعود فكرة العلمانية مقارنة بالتمثيل البياني الصاعد للتطور العلمي والتقني ، نجد شيئا من التزامن ظاهريا ، لكن ذلك لا يعني القطع بأن ترابطهما عضوي . بدأت فكرة العلمانية في أوروبا كتمرد على احتكار رجال الكنيسة للفكر المعرفي من خلال اعتبار فكرتهم عن الكون والإنسان أنها مستمدة من الكتاب المقدس ، رغم أنه لا يوجد سند فيه لذلك الإدعاء ، فاضطهدوا العلماء والمفكرين بدءا من ” كوبرنيكس ” الذي قال عام 1543 بمركزية الشمس وليس بمركزية الأرض في الكون ( حسب الفكر اللاهوتي ) ، ولم يعرف إلا حديثا أنه أخذ هذه الفكرة عن العالم المسلم ” إبن الشاطر ” عندما وجدت مخطوطته ضمن مقتنيات كوبرنيكس وتاريخها أقدم بأربعة قرون . لم تستطع الكنيسة الحجر على أفكار أحد رغم حملات حرق الكتب وأشهرها مكتبة غرناطة التي حرق فيها ثمانية آلاف كتاب ، وظهر جاليليو ثم نيوتن ثم داروين ، لكن الضربة القاضية لسلطة الكنيسة كانت الثورة الفرنسية عام 1789 ، وبعدها أصبحت العلمانية منهجا في معظم أوروبا . في المقابل ، فإن التقدم العلمي – التقني نشأ مواكبا للثورة الصناعية ، والتي انطلقت من بريطانيا في أواخر القرن الثامن عشر وبدأت باكتشاف الآلة البخارية ، وكانت هذه الثورة متطلبا للرأسمالية الصناعية ، وبهدف المكننة للإستغناء عن اليد العاملة المُكْلفة ، وزيادة الإنتاج ، وكانت الحملات الإستكشافية ليست بدافع علمي ولا لنشر الحضارة بل البحث عن المصادر الطبيعية المجانية والأسواق التصديرية . لم تكن بريطانيا علمانية ، ومازالت إلى اليوم كذلك ، إذ تعتبر الملكة رئيسة الكنيسة الأنجليكانية .. إذن لا علاقة بين تقدم العلوم وفصل الدين عن الدولة ، فالفصل قضية تتعلق بوقف تدخل المؤسسة الدينية ( الكنيسة الكاثوليكية ) في القرارات السياسية ، لأن لها تاريخ غير مشرق في دعم الإقطاعيين والأباطرة في ربط إنصياع العامة لهذا التحالف المصلحي بالترغيب والترهيب باسم الله . بناء على ما سبق نصل الى إثبات الفرضية التي ابتدأنا بها الموضوع ، وهي أنه لا رابط بين فصل الدين عن الدولة والتقدم الذي حققه الغرب . ندخل الآن الى الفرضية الثانية ، والتي تقول أن سبب تأخرنا هو الربط بين الدين والسياسة ، أو بمعنى آخر الإسلام السياسي . سنبدأ أولا بالمبادئ المثالية : الدين هو تعليمات إلهية للبشر تتناول كل ما يحتاجونه للعيش بسعاده ، وتشمل كل مناحي الحياة الشخصية والمجتمعية والتعاون الأممي ، اعتمدت على مبدأ الإيمان بوجود الله ويوم الحساب ، كحافز بالثواب ورادع بالعقاب ، وبلا شك فإن الدافع الذاتي أقوى كثيرا وابلغ أثراً من اللجوء الى الردع بقوة السلطة . إذاً ، اذا قام النظام السياسي الذي ينتهج أسلوب الحكم الذي يختاره الشعب : سواء كان ملكيا أو جمهوريا أو غيرهما ، بالإلتزام بالمنهج الديني ، فإن ذلك يمثل النظام السياسي الأمثل . تبقى المشكلة في درجة البعد عن المثالية فقط ، بمعنى أن المسألة ترتبط في تطبيق نظام الحكم للشريعة ، أو في تعديل الدين ليوافق هوى الحاكم ، كما أن العوائق ليست في التشريعات ذاتها فهي إلهية تمثل الحكمة المطلقة ، قد لا تدرك جميع معانيها لقصور الفهم الإنساني لحكمتها في زمن ما ، لذا لا يُعتدُّ بتقييم البشر وحكمهم على صلاحيتها للتطبيق . عندما نقول الدين ، نقصد الدين النهائي الذي لم تكن مكتملة تشريعاته في مراحل سابقة ، عندما كانت تتنزل على أقوام محددين ، ولم يكن الأنبياء السابقون مكلفين بنشره لغير قومهم ، فقط كلف آخر الأنبياء محمد ( ص ) بنشره الى البشرية جمعاء ، بعد إذ اكتمل وأصبح مدونا في ( القرآن الكريم ) ، هو دين واحد إذ لم ترد كلمة “أديان ” في القرآن الكريم بل ورد : “شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ” (الشورى:13 ) ، وهو كلام الله الى البشر ، وقد تعهد الخالق بحفظه من أي تغيير أو تعديل على مر الزمان وتغير العصور ، وقد ثبت ذلك قطعيا ليثبت أنه كتاب الله حقا . هنا نصل إلى السؤال : طالما والأمر كذلك ، لماذا الإصرار على استبعاد تأثير الدين من حياة الناس ، بعد إذ أنه جاء ليتمم مكارم الأخلاق ، ويحقق العدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان ؟ الإجابة تكمن في أن الصراع بين الحق والباطل قائم دائم ، ولولا دفع الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض ، ولهذا حكمة عميقة فالحق لا يقوى إلا بالصراع مع أعدائه ، ولا تتبين معادن الناس إلا بالإبتلاء . نستنتج في الخلاصة أن من يحاربون الإسلام السياسي ، هم يحاربون الإسلام أصلا ، ومن يقولون إن الإسلام معتقد فردي وليس نظام حياة ، هم يريدون تفريغه من محتواه وتحويله الى تراث إنساني وليس عقيدة إلهية . الإسلام ليس مجرد طقوس وشعائر تديرها وزارة أوقاف وشؤون دينية … إنه نظام سياسي اجتماعي اقتصادي متكامل ، ولا يمكن أن تتحق عدالة ولا سعادة بدونه .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى