الشعر الجاهلي والقرآن الكريم مقاربات فكرية في بناء العقل العربي

الشعر الجاهلي والقرآن الكريم مقاربات فكرية في بناء العقل العربي
أ. د. خليل عبد الرفوع

يُقصدُ بالشعر الجاهلي : الشعر الذى قيل قبل الإسلام في الجاهلية المتأخرة، وعمره الزمني – نضوجًا – مائتا سنة إلى خمسين ومائة قبل الإسلام كما يقول الجاحظ، وقد نُسِبَ الشعر فيه إلى الجاهلية، وهي تسمية اصطلاحية قرآنية أطلقت بعد الإسلام دلالة على العصر الذي سبقه فكان جهلا دينيا قائما على العدوان وليس جهلا معرفيا ، ونعلم أن الجهلَ مناقض للإسلام كما أن من معانيه الطيش والعدوان ومن ذلك استمد تسميته، والعصر الجاهلي في مجمله عصر لم يتبلّر فيه دين صحيح يعادل الإسلام فهو حسب وصف القرآن عصر الظلمات لتفشي العدوان والطيش والنهب بمباركة القبيلة وتحت ظلالِ سيوفها؛ فإذا لم يجدوا إلا أخاهم فلتكن الحرب عليه إلى أن يترك الليلَ النهارُ ، فهي دلالة مناقضة للإسلام بنوره وعدله ولم تعنِ  المعنى اللغوي المعجمي ( ضد المعرفة)، فقد كان العرب أهل حضارة فكرية تمثلت في الشعر والكتابة وقراءة التوراة والإنجيل بالعربية، والموسيقى والأمثال والحكم والتلاقح المعرفي مع الأمم المجاورة، ومادية تمثلت في العمران قصورا ومدنا وحصونا وقلاعا، وفي النشاطات الاقتصادية كالصناعة والزراعة والتجارة الداخلية والخارجية، والصيد البري والبحري والرعي وقد تحدث عن ذلك كله مفصلا ومجملا الشعر والقرآن معا حتى وصفهم القرآن بأنهم قوم خَصِمُون، لذا دعا إلى مجادلتهم بالتي هي أحسن إعمالا للعقل من كلا المتجادلينِ.
        ماذا لو لم يتنزل القرآن بلسان عربي، فهل بقيت العربية محفوظة إلى يومنا؟ ولو عكسنا السؤال السابق، وقلنا :  لو لم يك هناك عرب هل تنزل القرآن؟ ولو عبرنا عن السؤال بمقولة  أكثر مباشرة وجرأة، لو لم يك هناك شعر جاهلي فهل يمكن للقرآن أن يتنزل على العرب ؟ تلكمُ أسئلة متواشجة تفرض إجابة واحدة تتضمن نفيا فاصلا قاطعا، فقد اكتمل الشعر قبل تنزل القرآن اكتمالا بيانيا جماليا فنيا معرفيا فكريا لم يستطع الشعر بعده في كل العصور  اللحاق به، فكان كل سبق لأدنى سبقه تَبَعًا، ولم يك ذلك السبق مقتصرا على الشعراء وحسبُ بل كان المتلقون على درجة سامية من الذائقة اللغوية المموسقة بإيحاءتها وخيالها وصورها وتاريخيتها، لذا كان التألق في القول من الشعراء موازيا ومتماهيا مع التلقي الفكري الناقد من العرب عموما لأنه الفن القولي المسيطر آنذاك، ولا غرو بعدئذٍ أن رأينا المتلقين أنفسَهم يسارعون في فهم مفردات الإسلام وآيات القرآن فهما دلاليا يعي المعاني المباشرة والرمزية، فقد مكنتهم  الدربة بالشعر على استيعاب دين جديد يقوم على عمود البلاغة قرآنا إلهيا، ولسانا نبويا أوتي الحكمة وفصل الخطاب، فهل كان العرب سيتبعون رسولا أعجمي اللسان يُرْتَجُ عليه في الحديث ولو معه آيات القرآن ومعجزات مادية يرونها بأعينهم ويسمعونها بآذانهم ! لذا رأينا العقل العربي مبنيا بناء نقديا محكما لما تشبع به من فكر لغوي أدبي ديني تأملي تأويلي علمي ممنهج.
              ومن حيث الصيرورة التاريخية الاجتماعية ، والخطابية  اللغوية المستعملة واقعيا كان الشعر الجاهلي هو المؤسس الأول للعقل العربي أسلوبا تركيبيا  وبناء بيانيا وإيقاعا موسيقيا تنغيميا، ومن ناحية أخرى كان للشعر الفضل في تأسيس الهوية القومية والمحافظة على اللسان من الانحراف عن لغة قريش في صراعها مع بقية اللهجات التي خضعت لصولجان تلك اللغة بقوة ذاتية كامنة فيها ولسلطان قريش في مكة حيث الوثنية والتجارة والأسواق ودار الندوة وميراث نبوة إبراهيم وإسماعيل وحرمة البيت الذي استعصى على أبرهة الحبشي المسيحيِّ ديانةً البيزنطيِّ تبعيةً سياسية، ومكانة قريش برجالها التاريخيينَ كقصي بن كلاب وهاشم وعبد المطلب ، وقد حمل ذلك كله رسيسا  كهنوتيا مُؤَسطرا قارًّا في الذاكرة العربية أن لغة قريش لها القِدْحُ المُعَلَّي في المَيْسِر اللغوي، فكان لها ذلك شعرًا من قبلُ ، وقرآنا من بعدُ .
           لقد  ذهبتْ مع جميع الأنبياء معجزاتُهم بموتهم،  فلم يتبقَ منها ومما تُحُدِّيَتْ به أثرٌ أو بقية، لكن مع النبي العربي بقي الشعر المُتَحَدَّى والقرآنُ المتَحَدِّي شاهدينِ على ما فيهما من إبداع يمورُ بالجمال والتجديد مع اختلاف في زمنية التشَكُّل والهدف والمؤلف، ولا يمكن المقارنة بينهما في الجودة البيانية ولا يمكن لأي مقارنة أن تنهض حقيقةً لسبب رئيسي هو أنه لا يمكن المقاربة بين الخالق والمخلوق ومن ثم بين إبداعهما قولا أو فعلا، وحتى لو أخذناهما نصوصا محضة فلن يصل الشعر بمجموعه إلى مستوى القرآن جودةَ بيانِ وجماليةَ سياقٍ وديناميكية خطاب واندياح صور وتكامل رؤية وقد نفى الله عن القرآن الشعرية وعن الرسول عليه السلام الشاعرية، ثم إن القرآن نص واحد متكامل صحيح صادق مُشَرِّع، والشعر نصوص لشعراء متباينين زمنيا وبيئيا وقَبَلِيًّا وموضوعيا وبنًى شكليةً على الرغم أن ما جمع بينها من مشاعر وآمال وأوزان وقواف وغنائية  كان مؤثرا في توحيد وجدان العرب والارتقاء به إنسانيا حتى قيل إن الشعر الجاهلي ديوان العرب، لكنه كذلك ليس على مستوًى فني واحد ففيه نضج وتجربة وتأمل ورؤية، وفي بعضه ضعف وسوقية ومباشرة ونزعة نحو القبلية بخيرها وشرها والإباحية الجسدية، لكن الغالبَ كما أسلفنا جمالٌ كالسحر يُضَاءُ بنورٍ  يُوْقَدُ من شجرته.
  كان الشعر الجاهلي المؤسسَ الأول تاريخيا واستعمالا للعقل العربي ثم جاء القرآن متمِّمًا، ويلحظ أن مكة الموطن الأول لتنزل القرآن لم تكن موطنا للشعراء، بل كان الشعر في جنوبها في قبيلة هذيل وفي المثلث الجغرافي الممتد بين نجد ويثرب وحائل، وفي الساحل المطل على الخليج العربي امتدادا من مسقط حتى جنوب العراق حاليا، وبذلك خرجت من الدائرة مكة واليمن وبلاد الشام والعراق نستثني من هذه عَدِيًّا بن زيد العِبادي، وما قيل عن تعليق المعلقات على جدران الكعبة هو أسطورة ليست من الحقيقة في شيء، لكن في مكة سوق الشعر والنقد أو لنقل إنها ذاكرة الشعر العربي؛ ولأنها كذلك وهي كذلك كان التحدي للعرب أن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سور أو بسورة من مثله، فقد كان تحديا موجها للعرب مجازيا، لكنه في الحقيقة للبلغاء منهم وهم الشعراء.
لقد أُسِّسَ العقلُ العربي على قواعد الفكر والفلسفة والتأمل والنقد مُشَرَّبًا بواعثها من الفصاحة  والبالغة  خطابا  مقروءا ومكتوبا ومتخيلا ؛ لذا لم ينشغل ذلك العقل بعدما سمع القرآن  بجمالية البيان بعد الدهشة الثقافية الأولى لسماعه، بل انشغل في التعبد بتلاوته وتطبيق أحكامه بعد فقهها، حتى من الشعراء الذين أسلموا كحسان بن ثابت ولبيد بن ربيعة والحطيئة وغيرهم، فحينما حاولوا التأثر به تحول شعرهم إلى تقريرية إنشائية محنطة لَفَظَها اللسانُ والأذن وهما اللذان تعودا على الفحولة الشعرية من قبلُ، وقد انشغل كثير منهم في نصرة هذا الدين بالهجرة والسعي والفتح ولم ينشغلوا بالمقارنة بين محفوظهم الشعري والقرآن، ولم يتوقف تيار الشعر عن تدفقه بل ازدادت روافده حتى آتى أُكلَه في العصر الأموي وهو  أكثر  العصور قربا ومضارعة للعصر الجاهلي من حيث التجويد الفني وجزالة اللغة.
كان الشعر الجاهلي المؤسس الحقيقي للعقل العربي ثم جاء القرآن متمما وعبر الصيرورة التاريخية المتعاقبة كان للشعر المتولد عن ذلك العقل دور حركي في إعادة ترميمه كلما ابتعد عن أصله المؤسس كونه المصدرَ والمؤصِّلَ ، وكان يفترض أن يستفيد الشعر في العصور اللاحقةِ منه ومن القرآن معا ومما تولد منهما وعنهما من تراث أدبي  وعلمي ضخم، لكن النفور من الشعر الجاهلي بزعم صعوبته لغويا أو بانفراد القرآن بالتوجيه العَقَدي الفقهي السلوكي كان سببا موضوعيا في ضعف العقل وتفككه لانشغاله بالحفظ دون الفهم من جانب الحَفَظة، وبالتقعيد الفقهي والنحوي والبلاغي والإعجازي من جانب الأصوليين على حساب التذوق الجمالي المتكامل للنص ضمن سياقاته الجمالية .
وقد استمر الشعر بعد العصر الجاهلي في إتمام بناء العقل العربي ابتداء من أصحاب النقائض جرير والفرزدق والأخطل والراعي النميري وأصحاب الشعر الغزلي كعمر بن ربيعة وجميل بثينة وكثير عزة وبدوية ذي الرمة، ومن تبعهم من الكبار كأبي تمام والمتنبي وصولا لشعراء الإحياء كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران والشعراء المعاصرين وفي طليعتهم أبو القاسم الشابي وبدر شاكر السياب ومصطفى وهبي التل والبياتي ومحمود درويش وأمل دنقل، ولهذا كله كان الشعر عبر عصوره الأدبية المتتابعة مُعزِّزًا في البناء مضمونا وشكلا وروئ  مستفيدا مما سبقه من الشعر ومن القرآن وما اُسْتُحْدِثَ من أدب نثري وفلسفي وعلوم إنسانية وتجارب الأمم الأخرى.

أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى