الدجاجة محروسة / شبلي العجارمة

﴿ الدجاجة محروسة ﴾

لا أعرف ما الذي حدا بي لأکتب عن الدجاجة محروسة ،وأنا أقرع خرخيشة الذکريات الباٸسة من کتاب العمر الکالح فصل الطفولة الهامشية باب الولدنة العابثة ،بعد أربعين عاماً ونيف وکأني أسمع مقاقاة الدجاجة محروسة الإفرنجية للتو تملأ رأسي وتستحوذ علی شهوة البوح والکتابة.
الدجاجة محروسة إسمُُ أطلقته أمي علی هذه الفرخة وکان يعني لنا الشيء الکثير، فالدجاجة محروسة هي الصوص والکتکوت الوحيد الذي عاش ونجا من بين سبعة صيصان کنت قد سرقتها من إحدی مزارع الدجاج اللاحم أثناء رعيي لعنزات أمي العشر ،فقد کانت الدجاجة محروسة قسمتي الضيزی هي وستة صيصان من أول سرقةٍ في حياتي وکانت آخرها ، فقد وضعتها کلها في خرج الدابة ، ولم يصل منها سوی ثلاثة صيصان ، سرعان ما نفقت إلا صوص واحد صار بعد ذلك اسمه الدجاجة محروسة.
کانت أولی حصص الحرية للدجاجة محروسة حين سقطت من فتحة برکس الدجاج السفلية فوق کومة الفضلات وزواٸد العلف والنجارة الرطبة، ثم کانت حصة الحرية الثانية حين خرجت من خرج دابتي لحضن الکرتونة داخل البيت ، وبدأت مسيرة حياتها کأي دجاجةٍ من دجاجات القرية البلدية، وصارت الدجاجة محروسة تتجول حول البيت وتتطفل علی أعلاف الماشية في الحضير ، الدجاجة محروسة تعلمت نبش القمامة بمخالبها ،تسللت لکروم الجيران وأکلت العنب حصرماً قبل نضوجه واستظلت بظله ،ولم يسلم حوض نعناع الجارة أم عطالله ولا بذور الريحان من بطش الدجاجة محروسة، الدجاجة محروسة أصبحت أشهر من مختار القرية وأشقی من أطفال الحارة وأجشع من لص متخلف همجي وجاٸع، وکانت تتبع أمي لبيوت الجيران متقمصةً دور الکلب الوفي ، حتی أذکر ذات صباح أنّ الدجاجة محروسة وصلت جرأتها أنّ قابلتنا علی ماٸدة إفطارنا ونهبت حبة زيتونٍ سوداء ولاذت بالفرار ، ولا أنسی تلك الظهيرة حين کان والدي يتناول غداءه بفناء البيت وقد سمعنا صوته العالي ينادي ويستغيث من جور وبطش الدجاجة محروسة التي نهبت رغيف خبز الشراك الوحيد من أمام والدي وتوارت عن الأنظار.
الدجاجة محروسة أصبحت أحد أفراد البيت لدرجة أنها أصبحت تتکبر علی المبيت في خم الدجاج البلدي الملون والذي لا يأکل سوی بقايا الخبز اليابس والمنقوع بالماء، حتی صدر مرسوم رسمي من والدتي بأن اترکوا هذه الدجاجة المبارکة علی حريتها وراحتها ،وربما أنّ ذبحها سوف يحل باللعنة والوبال علی البيت حسبما قالت أمي، فصارت مخلفاتها علی البلاط والحصيرة شيء اعتيادي وکأن طفلاًً عابثاً سکب الشاي علی البلاط أو الحصيرة أو کأن ضيفاً تبول علی الدرج.
الدجاجة محروسة لن أبالغ أنها أصبحت لا تستطيع أنّ تتخطی عتبات الدرج من وزنها الوحشي ،فلا أبالغ إن قلتَ أنتي أحتاج لأحد إخواني أنّ يحملها معي فقد بلغ وزنها أکثر من خمسة کيلو غرامات ، کانت غوريلا بيضاء علی شکل دجاجة،لدرجة کانت تطارد أبناء الجيران حين يمرون من أمام البيت .
الدجاجة محروسة نجت من محاولات السکين الباٸسة عشرات المرات لشفقة أمي وقلبها الطيب،فکانت تقول أمي ”يا يمه هالدجاجة ربنا ما فك أسرها من بين آلاف الصيصان ولا نجاها من خنقة خرج الحمار ولا خلاها تصير هالکبر إلا لأنها مبارکة ،ويا خوفي إذا ذبحناها إنا غير ننسخط أو يصير بينا شي مو کويس اترکوا هالمبارکة “ ، ومن هنا أخذت الدجاجة محروسة إسمها المشهور والذي لا زال عنواناً لحقبة من حقب الطفولة المبهمة .
برغم أن الدجاجة محروسة تعلمت لغة مقاقاة الدجاج البلدي وتعودت علی النبش والبحش والنکش وصارت مثل مطحنة الشرايط لا تفرق من الطعام غثه ولا سمينه، ولا تفرق بين خمها الضيق وبيتنا الشاسع، إلا أنها لم تفرح أمي ببيضة واحدة من الدجاجة محروسة ،ولم تستطع أنّ تغير لونها الأبيض الخاص بدجاج المزارع .
حتی أنا لا أتذکر کيف کانت نهاية الدجاجة محروسة ولا أعرف کيف غابت وإلی أي العناوين اتجهت ، الاحتمالات واسعة والشکوك کثيرة ، فلم أعد أعرف هل انتهت تحت سکين أحد الجيران أم فاز بها أحد اللصوص وباعها في سوق الطيور أم أنها استقرت بکل نعماٸها ودلالها وبطشها وبرکتها في بطن کلب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى