الحاكمية / د . هاشم غرايبة

الحاكمية
كثير من الناس يكره التنين ، ويعتقد أنه وحش شرير ، رغم أن أحدا لم يره ، أو اكتوى بألسنة اللهب التي ينفثها ، لكن الصورة المتخيلة له مرعبة لدرجة لا تتيح اقناع أحد بأنه حتى لو كان كائنا حقيقيا لربما يمكننا التفاهم معه . كذلك الإسلام في تصور كثير جدا من الشعوب الغربية ، لا يعرفون إلا ما ترسخ في أذهانهم عبر تاريخ طويل من التشويه المتعمد ، حتى بات من الصعب تصوره بغير الصورة الشريرة المرعبة .
الإعتقاد السائد بأن المبدأ الإسلامي ” الحاكمية لله ” هو مفهوم قامع لحرية الإنسان وممارسة حقه في اختيار من يحكمه ، سنتطرق فيما يلي لهذا المفهوم ومدى تعارضه مع الحق الإنساني المقدس : الحرية .
الحاكمية مصطلح يقصد به إفراد الله وحده في الحكم والتشريع فهماً من قوله تعالى : ” إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ..” (يوسف : 40 ) ، وقد ظهر هذا المصطلح في معركة صفين ، ثم استعمله الخوارج في أدبياتهم ، لكن أبا الأعلى المودودي يعتبر أول من صاغ فكرة الحاكمية الإلهية في الإطار السياسي والاجتماعي والقانوني ، وكان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كتبا فيها وتوسع سيد قطب في البحث فيها .
إن وجهة نظر العقيدة الإسلامية تقول: إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله ، وإن حكم سواه موهوب وممنوح ، الأمر الذي يجعل البعض –سواء من أنصاره أو خصومه- يتصور حكومة الإسلام «ثيوقراطية» و«حتمية إلهية» لا مكان فيها لإرادة الإنسان .
لكن ذلك التصور ناقص بدليل قوله تعالى ” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..” ( البقره:30 ) ، فالإله حاكم للإنسان والطبيعة ، بأمره وبشرعه ، وعندما قبل الإنسان الأمانة أي التصرف بالكون حسب ما أمر به الله استخلفه في الأرض ، وبالتالي أصبح الإنسان حاكما بأمر الله ، لكن هناك تمييز بين من التزم بهدي الله ، ومن حكم وفق هواه ، بقوله تعالى ” قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ” ( البقره :38 ) .
إذن تأتي بعد حاكمية الخالق وحاكمية الإستخلاف ، حاكمية الإنسان ، والتي أسندت بداية إلى خاتم النبيين رسول الله ( ص ) ، فحكم بما أنزله الله عليه من هدى ، وترك لمن سيأتي بعده مرجعا ثابتا فيه تفصيل كل شيء هو القرآن الكريم ، ودليلا مرشدا لكيفية فهمه والعمل بموجبه هو السنة النبوية الشريفة ، مع هذين المرجعين لن يضل الحاكم أو يتوه .. وهذه هي حاكمية الكتاب وهي التي تضبط حاكمية الإنسان وفق المنهج الأساسي …حاكمية الله .
إذن ليست هنالك دولة ثيوقراطية في النظام السياسي الإسلامي ، لأن الإنسان هو الحاكم ، وليس الكهنوت الذي يحصن رأيه بحجة أنه يمثل الله ، والفارق كبير بين يحكم بموجب منهج مكتوب بوسع الجميع مراقبة أدائه وفحص مدى تطابق قرارات الحاكم مع هذا المنهج ، وبين من يدعي أنه مفوض من الذات الإلهية باتخاذ ما يراه مناسبا .. الأول تحت المراقبة والمحاسبة ، والثاني معصوم ولا يسأل عما يفعل .
مع تبيان كل ذلك ، يبقى من يماري في أن حاكمية الإنسان ، عندما طبقت في الحقبة الراشدية ، كان الحاكم يسمى ” أمير المؤمنين ” ويفسرونها على أنه بذلك يستثني غير المسلمين فلا يعتبرون مواطنين ، هم غفلوا عن حقيقة أن المؤمن صفة أعمق وأشمل من المسلم ، بدليل قوله تعالى ” قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ ” ( الحجرات : 14 ) ، وعليه فإن ذلك يعني شمول كل من آمن بالله مثل اليهود والنصارى والصابئين ، وبطبيعة الأمر فلا يشمل ذلك الكفار والمشركين لأنهم أصلا يرفضون مبدأ حاكمية الله .
أما من يدعي أن ما وصل إليه الفكر الإنساني من تبنيه للنظام الديمقراطي ، على أنه نهاية المراد وخاتمة الإجتهاد ، فيكفي أن نقارن بينه وبين منهج الحاكمية في الإسلام من ناحية المآل ، ففي الديمقراطية في أعلى صورها تكون مرجعية الحاكم هي الدستور ، والذي يضعه عادة هيئة تأسيسية يتم انتخابها من بين الشعب ، وتتفق على البنود بالتصويت ، وفي أفضل الأحوال يبقى هنالك 40 % من بين هؤلاء يعارضونها ، ثم يعرض الدستور للإستفتاء العام بنعم أو لا ، يحق التصويت لحوالي 80 % من الشعب ، يمارس هذا الحق 70 % في أفضل حال ، ومن هؤلاء يصوت بنعم 60 % عادة منهم ، إذن تكون نسبة تمثيل هذه التشريعات لإرادة الشعب هي 17 % فقط !
ثم تأتي نسبة التزام الحاكم بهذه البنود بنسبة 60 % في افضل الأحوال .. فيكون رأي الحاكم بذلك ممثلا لأقل من 10 % من رأي الشعب … ومع ذلك يقال أن هذا النظام هو المثالي لتمثيل إرادة الشعب .
المنهج الإسلامي هو تشريع إلهي ، فهو مطلق الكمال ، أي يمثل مصلحة الناس بنسبة 100 % ، وعليه مهما تجاوز الحاكم هذه التشريعات فلن يقل التزامه عن 60 % ….
وشتان ما بين نسبة ال 10 % كحد أعلى ، و 60 % كحد أدنى !! .

للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى