الجــــــــــــــــــــــــرو / يوسف غيشان

الجــــــــــــــــــــــــرو
“كان أول وآخر المتزلفين لجناب حضرتي ؛ لم أدرك ذلك إلا بعدما فقدته ، لكن هذا لم يمنعني من قيادة أوركسترا العويل مع أخوتي ، حتى قبل أن يشرع في النزع الأخير .
نمر ، نعم ، نمر ، كان أسم القاتل . الغريب إن الوالد والوالدة استقبلاه بترحاب لا يليق بقامته ولا بظهره المحدودب لكأنه الممثل البديل في فيلم ( احدب نورتردام) في الواقع كانوا يستقبلون الموظف الحكومي بالترحاب والخوف قي ذلك الزمان ، مع أن هذا النمر المزيف لم يكن سوى موظف بلدية صغير أنيطت به مهمة تسميم الكلاب ، كلما انتشر مرض السعار في المنطقة .
لا أذكر كيف أدركت اللعبة لحظة دخول الرجل إلى حوش البيت ، ربما كنت بالسادسة .حتى الجرو أحس بهول ما يحدث؛ فازداد التصاقا بي وهو يرتعد ؛ فاحتضنته ثم شرعت مع أخوتي بالزعيق . أخي نبيل لم يكتف بالمشاركة في الكورال ،بل أنغمس أيضا في أداء رقصة تعبيرية وانهمك في التمرمغ فوق تراب الحوش الملظوم بمخلفات الدجاج والأرانب التي تربيها الوالدة معنا في ذات (الفيلا) . أما أختي الصغرى ريما التي لم تكن قد أكملت عامها الثاني بعد – حسب تقديري- فقد دوزنت صرخاتها الهستيرية مع رقصة المرمغة التعبيرية التي كان يؤديها نبيل بكل كفاءة واقتدار. نبيلة ..كانت أقل كربا منا ، لذلك فقد كانت تغش …إذ تفتح فمها على مصراعيه دون أن تصدر أصواتا تذكر، متوهمة بأننا في ظل حالة الحداد المبكر لن نكتشف خديعتها.
بالكثير من التبجح نهض النمر ، وأخرج قطعة لحم حمراء مكعبة بشكل لافت .. غمسها بمسحوق أبيض ثم قرّب يده الممدودة من الجرو الذي لعقها بامتنان، لم يدرك إلا متأخرا بأنه لعق يد الرجل غير المناسب وفي الوقت غير المناسب إطلاقا.استدرك؛ فقد نسيت حالة الحداد وهجمت على قطع اللحم وحاولت اختطافها من كف النمر قبل أن يقضمها الجرو.،؟ لكن النمر استأسد علي وردني بوحشية ، فيما أكملت الأم المقرر وأوسعتني ضربا وشتما وهي تصرخ مثل طرزان.وتقول وتكرر:
ــ ولك مسمومة يا بغل !!!!!!

لم افهم في البداية ماذا تعني كلمة “مسمومة” ، على اعتبار أنى فهمت كلمة بغل تماما(اسم الدلع)…قطعة لحم حمراء رائعة توهب لجروي الذي توهمت بأنهم يتآمرون عليه، بينما يتعين علي الصمود لشهر أو اكثر قبل الحصول على قطعة مشابهة على الغداء.
أقعيت متلمظا وأنا أحدق بالجرو وهو يلتهم قطعة اللحم بكل أبهة حتى أجهز عليها …. أصابته أولا حالة من المرح الزائد فور ازدراد المكعبات اللحمية ، ثم صار يطارد ذيله ويدور حول ذاته مثل أي كلب مدلل . بعد قليل صارت حركاته أكثر عشوائية ، ثم شرع يقع ويقوم بشكل مرتبك مثل سكران جديد على الصنعة.

هنا فقط أدركت حجم الكارثة ، وفهمت معنى عبارة ” ولك .. مسمومة يا بغل “. فقد تم تمويت جروي بواسطة قطع اللحم المكعبة التي كنت أحسده عليها . عدت إلى قيادة أوركسترا الزعيق فيما توقف نبيل عن التمرمغ بعد أن اكتشف إن طرائقه الاحتجاجية لم تثمر وان جرونا في طريقه إلى الهلاك.
توقفنا عن العويل حينما بدأ الجرو يتمايل ….. صمت يشبه جرحا مفاجئا ، لم يقطعه سوى عويل الجرو المسكين لكأنه طفل حديث الولادة … سقط ثم قام … سقط ثم قام ثم سقط…. ثم لم يستطع النهوض، فانجعى على جانبه ، ثم جاهد ليأخذ وضعا اقعائيا لكنه لم يفلح ، ونجح فقط في أن يركي ذقنه على قدميه …. نظر إلينا بقنوط..ثم نام … نام إلى الأبد.
صمتٌ أكثر حلكة انهال علينا ، لم يقطعه سوى رشفة الشاي الأخيرة من براطم النمر ، الذي زأر موجها كلامه للجميع:
ــ ادفنوه كويس ….!!!!
ثم حيّـــانا وخرج ،لكأنه قائد منتصر أنهى للتوّ تفـــقـّد مهاجع جنوده الشجعان .
كانت هذه أول مواجهة لي مع الموت ، وأذكر أنى ارتعبت من الداخل وهزني قلق وجودي لا يليق بعمري ، إذ كان علي أن أهرق المزيد من السنوات قبل أن أدرك أنني أيضا قادر على الموت..و أني سوف أتناول قطعتي المسمومة رغما عنى . لكني تعلمت أن لا أتعاطى اللحم من أيدي الآخرين، وان لا أتناوله إلا إذا دفعت ثمنه عرقا وجهدا”.

ghishan@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى